مجيء الحريري إلى بيروت
ناصر قنديل
– ليس من لبناني يتوهّم أنّ الدخول في حلحلة سياسية واستطراداً وضع الاستحقاق الدستوري على سكة تنتهي بإنجاز انتخاب رئيس جديد للجمهورية، ممكنة بغياب الرئيس سعد الحريري عن العاصمة بيروت، وبقائه في الخارج، فالكلّ مُجمِع وخصوصاً خصوم الرئيس الحريري في الملفّ الداخلي والإقليمي والرئاسي، وعلى رأسهم حزب الله، أنّ البلد يحتاج مناخاً من التوافق سواء لفكفكة عقد التجاذب السياسي، أو لبلوغ الاستحقاق الرئاسي فالحرص على أن يكون الاستحقاق الرئاسي مدخلاً لقيام الدولة وإقلاع توافق كبير يحيط بالرئيس الجديد، كان واضحاً في كلام الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله، واستطراداً ربطه للإنجاز الدستوري ضمناً بمشاركة تقوم على التفاهم مع تيار المستقبل.
– عودة الرئيس الحريري، كما يقول مريدوه والمقرّبون، ليست مجرد زيارة للمشاركة في ذكرى اغتيال والده، بل هي ضمن نية البقاء في بيروت، وهذا ما سبق ودعاه إليه الكثيرون من الحلفاء والخصوم، لما يرتبه وجوده في بيروت من ضخّ مناخ من التواصل السياسي مع تياره الذي بقي مشتتاً ومربَكاً ومصدر إرباك للآخرين، سواء للحلفاء او للخصوم، في ظلّ تقدّم أكثر من مرجعية في التيار لخطف القيادة وادّعاء التمثيل السياسي للتيار، بغياب الحريري، وتناقض هذه المرجعيات ومواقفها وتنافسها على ملء فراغ غيابه، وفي ظلّ قناعة لدى الجميع أن لا مصلحة لأحد بتفكك تيار المستقبل وتشقق صفوفه وضمور حضوره، فالمستفيد الوحيد الجاهز من إضعاف المستقبل وزعيمه، كما كان الأمر بصورة مضاعفة مع الغياب القاسي الذي تركه اغتيال الرئيس رفيق الحريري، هو التطرف المذهبي والتطرف التكفيري، اللذان يصيران واحداً في مثل هذه الحالات، ويملكان بنية منظمة وقدرة مالية وهيكلية عسكرية قادرة على تعبئة ناتج التفكك والتشظي في البنية المستقبلية عبر جيوب صارت جاهزة ولها امتدادات داخل تيار المستقبل وعلى جوانبه، وتطلّ برأسها كلما سنحت الفرصة فصارت عودة الحريري للملمة تياره وشدّ مفاصله وعصبه واستحضار صورته المتماسكة والفاعلة أمراً مرغوباً ومطلوباً من الحلفاء والخصوم، كجزء من ضرورات الأمان السياسي للبلاد.
– منذ غياب الحريري لم يرد في حساب أحد التعامل مع الغياب كنتيجة لخطر أمني استثنائي إلى درجة تبرير الغياب، رغم اليقين بأنّ لبنان المنخرط في صراعات المنطقة، والواقع في قلب مخاطرها وانفجاراتها، ليس في وضع أمني مثالي، خصوصاً بالنسبة لأمن القادة السياسيين الكبار، لكن ما يصحّ في حاله يصحّ في حال غيره، المهدّد والمعرّض والمقيم في لبنان، وكان واضحاً أنّ الغياب هو نتيجة يقين بأنّ جولات الصراع في المنطقة ودرجة التموضع على ضفافها، تجعلان العمل الرئيسي للحريري من موقعه في هذه الصراعات من خارج لبنان ذي وظيفة، بينما تواجده في لبنان بلا وظيفة، لأنّ كلّ شيء مؤجل، ولا شيء يمكن القيام به فعلياً غير المراوحة، ولذلك يستبشر اللبنانيون حلفاء وخصوم الحريري خيراً بعودته كتعبير عن يقين معاكس، بأن لا شيء بات يفعل من الخارج، وأن ما يمكن فعله من لبنان قد آن أوانه، وهو كثير جداً.
– خطاب الرئيس الحريري في ذكرى رحيل والده الرئيس الشهيد رفيق الحريري، كان تعبيراً يزيد القناعة بالترحيب بالقدوم، ليس لأنّ فيه من المفردات والصياغات التوافقية ما يبشّر بالخير، بل لأنه في الشؤون التي تطرّق إليها، عبّر عن الدور المنتظر لوجود الرئيس الحريري أن يؤدّيه، فهو في الشقّ الخلافي مع حزب الله خطاب شدّ عصب وإمساك بالتيار الأزرق من الأيدي التي تحاول تناتشه وتوزُّع ميراثه، وادّعاء أبوة بديلة وزعامات مستعدّة للوراثة، وفي الشق الرئاسي هو خطاب سرد لوقائع الاستحقاق بلغة الراوي لا صاحب الموقف، وهذا أمر مفيد لاستئناف الحوارات مع الحلفاء والخصوم، الذين مرّ رئاسياً على ذكرهم من العماد ميشال عون إلى رئيس حزب القوات اللبنانية سمير جعجع وصولاً إلى النائب سليمان فرنجية، ودائماً بكركي والنائب وليد جنبلاط.
– تذكر الحريري جنبلاط مراراً وذكر مرشحه النائب هنري حلو في دعوته للذهاب إلى المجلس النيابي وانتخاب رئيس من بين مرشحين ثلاثة، يعرف أنها لن تتمّ، وأنّ الكلام عن الترحيب بالنتيجة، مهما كانت وكيفما كانت، تحكي حقيقته درجة الترحيب التي مارسها هو وتياره مع تسمية الرئيس نجيب ميقاتي رئيساً للحكومة، يوم تشكلت أغلبية كافية لتسميته عددياً، وفقاً للنص الدستوري وبنتيجة تموضع سياسي معلوم جداً عند الحريري، وبشروط من احترام للميثاقية بحدود مشابهة لما يطرح للتنافس في الخيار الرئاسي اليوم، وأن تعامل تياره وتعامله مع منصب رئاسة الحكومة يومها بإلقاء الحرم والحجر على رئيس الحكومة المسمّى سابقة، ولا يمكن لأحد أن يضمن عدم معاملة كتل الغالبية المسيحية الشعبية للرئيس المسيحي المنتخب على طريقة تسمية الرئيس ميقاتي ذاتها وبشروطها الميثاقية ذاتها أيضاً، رغم أنها كانت فوق سلامتها الدستورية قد تمّت بتموضع سياسي قد يكون قابلاً للتكرار، فيعامل الرئيس المنتخب ويُعطَّل بطريقة معاملة التيار الحريري ذاتها للرئيس ميقاتي وتعطيله، وأن لا داعي لخوض غمار التجربة بل ترداد دعاء بكركي الروحي «اللهم أبعدنا عن التجارب – آمين».
(البناء)