مناورات أميركية فاشلة لوقف الاندفاعة السورية… فما ستفعل بعدها؟: العميد د. أمين محمد حطيط
بات واضحاً أن الاستراتيجية السورية التي اعتمدت في أيلول 2015 باشتراك وتنسيق تامّين مع محور المقاومة وروسيا استراتيجية «الحرب الشاملة والجبهات المتعددة والمحاور المتناغمة»، بات واضحاً أن هذه الاستراتيجية هي علاجية لمواجهة العدوان وترمي إلى:
1 استكمال عزل سورية عن مصادر الإرهاب المتدفق إليها من الخارج وبشكل أدق من الأردن وتركيا.
2 استكمال الإمساك بمرافق الدولة كافة ومناطق الثقل النوعي الاستراتيجي فيها دون أن يكون فيها أوكار للإرهاب ومعاقل وقواعد له تؤثر على تواصل هذه المناطق وإنتاجيتها وسلامة الحياة فيها.
3 استكمال ملاحقة الإرهاب على باقي الأرض السورية وحرمان الجماعات الإرهابية من استعادة القدرات الهجومية التي فقدوها مؤخراً.
4 استكمال تطهير باقي الأرض السورية من الخارجين على حكم القانون والشرعية والمهدّدين وحدة سورية وشعبها والدولة العلمانية فيها.
لكن المعسكر المعادي بقيادة الولايات المتحدة وإدراكاً منه أن سورية وحلفاءها يملكون الآن القدرة على تحقيق هذه الأهداف، بات يخشى أن تتسارع الأمور وتتالى الانهيارات في صفوف الأدوات الإرهابية التي استعملت ولازالت تستعمل من قبل ذاك المعسكر، ما يقوده إلى خسارة استراتيجية مدوّية لن تنحصر مفاعيلها في سورية وحدها بل ستتردد أصداؤها في المنطقة والعالم كله، لأن سورية ليست قبل العروبة، فحسب بل إنها مركز الثقل النوعي للمشرق العربي ومعبر إلزامي للدخول إلى ما تبقى من منطقة الشرق الأوسط شرقاً وأن الممسك بالقرار في سورية يؤثر بشكل لا نقاش فيه في المسرح الاستراتيجي الأوسط كما تسمّيه أميركا.
وحتى لا تصل أميركا إلى هذا الموقف الصعب استراتيجياً، يبدو أنها بدأت تطلق المبادرات وتُجري المناورات التي من شأنها منع سورية وحلفائها من تحقيق أهدافهم الدفاعية، وتجميد الواقع الميداني حيث هو الآن والدخول في مفاوضات لحل الأزمة السورية بما يحفظ لأميركا وحلفائها وأتباعها مكاسب فاتهم تحقيقها في الميدان، واتكأت أميركا على هيمنتها وقدراتها السياسية للتأثير على المفاوضات تحقيقاً لأهدافها، والكل يعلم قدرات أميركا في تحويل الهزيمة في الميدان إلى انتصارات في السياسة، ويكفي أن ننظر إلى سلوكياتها في لبنان لنقف على نماذج تطبيقية لهذا الأمر.
أما مسألة تجميد الواقع، فيبدو أن أميركا اعتمدت العمل على خطين متوازيين في الآن ذاته:
– فمن جهة حركت التداول الدولي حول الأزمة السورية وأجرت استدارة في الأمر تجعل المعسكر المدافع عن سورية ينخرط في عملية سلمية تشارك أميركا في رعايتها، ومن أجل ذلك كانت تفاهمات فيينا 1 و2 التي ترجمت في مجلس الأمن بالقرارين 2253 لمكافحة الإرهاب، و2254 للحل السياسي. وهما قراران يستجيبان إلى حد بعيد للمنطق السوري في مقاربة الموضوع، وكانت تتوخى التحكم بمسار الأمور والوصول إلى ما تريد عبر هذه العملية. ومن أجل ذلك أوكلت إلى السعودية أمر تجميع المعارضة والى الأردن أمر تحديد لائحة بالمنظمات الإرهابية المستبعَدة عن الحل السياسي. وطبعاً أملت من هذا المسار وقف اتفاقَي إطلاق النار وتجميد للواقع، كما تتقبله أميركا قبل الانهيار.
– ومن جهة ثانية كان التهويل بتنفيذ عمل عسكري على الأرض السورية، يكون في ظاهره حرباً على داعش وفي باطنه التصدي لاندفاعة الجيش العربي السوري وحلفائه لمنعه من تحقيق أهدافه أو على الأقل منعه من الوصول إلى الحدود مع الأردن وتركيا، والحؤول دون التوجه إلى الجبهة الشرقية وإخراج داعش من الرقة. ولهذا أطلقت أميركا فكرة إنشاء جيش بري من 150 ألف عسكري يكون مدعوماً بالقوات الجوية العاملة اليوم في أجواء العراق وسورية تحت عنوان التحالف الدولي بالقيادة الأميركية. وقد أرادت أميركا من هذا المشروع إحداث، أو التلويح بنيتها إحداث توازن بين المعسكرين المعتدي والمدافع في الميدان فيكون لكل منهما منظومته العسكرية الميدانية المشتملة على قوى بر وقوى جو تعملان بشكل منسق على الأرض.
وعلى هذا يكون نوع من الاستخفاف بالعقول القول بأن إرسال جيش من 150 ألفاً إلى سورية هي فكرة سعودية «أبدعها» العقل السعودي «المميّز» بقدراته الاستراتيجية التي «أذهلت» أساطين الفكر العسكري والاستراتيجي في العالم، بخاصة بعد «الإنجازات الكبرى» التي حققها هذا الفكر في اليمن عبر «التحالف العربي» الذي نفّذ «عاصفة الحزم» ثم «إعادة الأمل» التي أغرقت السعودية في اليمن، رغم أنها آلت إلى تدميره والإجهاز على بنيته التحتية ومكنت تنظيم القاعدة الإرهابية ووليدتها داعش من الانتشار في كل منطقة زعمت السعودية أنها سيطرت عليها أو انسحب منها الجيش اليمني واللجان الشعبية التابعة لأنصار الله الحوثيين، انسحاب قادهم إلى عبور الحدود مع السعودية و»احتلال» مساحات فيها تتجاوز أكثر من مساحة محافظتين في اليمن.
ففكرة إرسال جيش بري يعمل تحت قيادة أميركية وبدعم جوي من التحالف الذي تزعم أميركا أنها شكلته لمحاربة داعش، هي مشروع أميركي المصدر والإنشاء، ويعود تاريخه إلى أيلول الماضي، حيث كشف عنه السيناتور الأميركي غراهام، وأكده المسؤول «الإسرائيلي» جلعاد، ثم سوّقه كيري لدى السعودية فأعلنت عنه كما طلب منها الأميركي. تمّ كل ذلك رغم أن أميركا تدرك صعوبة التنفيذ حتى الاستحالة، لاعتبارات لوجستية وعملانية وسياسية فاعلة ومؤثرة.
فمن ناحية التشكيل والتنظيم والتدريب، فإن الأمر يتطلب إشراك حوالي 12 دولة في الحد الأدنى، كما تسرّب حتى الآن وإن جمع هذه القوى وتأهيلها للعمل معاً في الميدان يتطلب من ثلاثة أشهر إلى أربعة تكون قوى معسكر مكافحة الإرهاب والدفاع عن سورية قد حققت أهداف المرحلة الأولى من أهدافها كاملة، وبعض أهداف الثانية وبعدها سيكون التدخل أكثر صعوبة أو أشد استحالة.
أما من ناحية التحرك والانتقال، فإن المنطق العسكري يستبعد الاتجاه الأردني نظراً لطول المسافة بين الحدود ومنطقة الأهداف والتي تزيد عن 500 كلم في الصحراء، أو 600 كلم على خط الأماكن الآهلة، وطبعاً ومع وجود الطيران الروسي والدفاعات السورية فإن التقدم هذا لا يكون عقلانياً بل انتحاراً موصوفاً. أما الانطلاق من تركيا ومع استبعاد المنطقة الكردية كمعبر للتدخل لاعتبارات أميركية أغضبت تركيا، فإن المنافذ المحتملة ستكون غرب الفرات في منطقة تكون القوات السورية قد فرغت من السيطرة عليها وأحكمت تجهيز خطوطها الدفاعية فيها وتكون قد أصبحت جاهزة للتعامل مع أي عدوان.
وأخيراً ودون إسهاب في عرض العوائق السياسية والعملانية الأخرى يكفي التذكير بالمواقف الإيرانية والروسية، وأخيراً التهديد السوري الذي وصل إلى المعنيين بالقنوات الملائمة، وفيه جهوز سوري للتعامل بقسوة مع أي دولة تقدّم أراضيها منطلقاً للعدوان على الأرض السورية، قسوة لا يُستبعَد معها إمطار الأهداف الاستراتيجية في تلك الدولة بما يلهبها خاصة المطارات والقواعد والسدود الخ ….
كل ذلك تعلمه أميركا، ولذلك وبعد الضجيج وموجات السخرية والاستهزاء التي واجهت الإعلان السعودي، بدأت أميركا بخطوات تراجعية لسحبه من التداول أو للإيحاء بأنه فكرة مطروحة للمناقشة يستصعب الموافقة عليها نظراً للعوائق المتعددة العناوين. ما يجعلنا نعود إلى طرح السؤال المركزي: كيف سيكون السلوك الأميركي حيال سورية بعد الإنجازات السورية الأخيرة؟
اعتقد أن أميركا ذات السلوك البراغماتي، لن تتورط هي أو من يتبعها بعمل عسكري بري مباشر في الساحة السورية يفاقم خسائرها وينال من هيبتها، فأي عمل عسكري ستقدم عليه في ظل الواقع القائم سيكون محكوماً بالفشل، ولن تكون أميركا قادرة على إضافة فشل آخر إلى لائحة إخفاقاتها، لذلك نرجح أن تكتفي أميركا بالتهويل، وأن تتجه للعمل على المسار السياسي بعد تراجع جديد عن مواقفها السابقة. وكما تراجعت في فيينا عن سقفها في جنيف، نعتقد أنها ستتراجع مجدداً في ميونيخ لتصل إلى تفاهم ما حول وقف إطلاق النار والعودة إلى التفاوض الواقعي، بما يستجيب إلى حد بعيد لأهداف معسكر مكافحة الإرهاب المتشكل من سورية وإيران وروسيا وحزب الله. فهل تفعل؟ وهل ستتذكّر بأن هذا المعسكر ماضٍ في الميدان لتحقيق أهدافه، وفي السياسة بما يتلاءم مع حق سورية في السيادة والقرار المستقل رضيت أميركا بذلك أم رفضت؟
أستاذ في كليات الحقوق اللبنانية
(البناء)