دعاة الحروب يحرضون للرد على النجاح الروسي في سوريا د.منذر سليمان
تعديل بوصلة الاعداء
انشغلت المؤسسات الاميركية، الرسمية والنخبوية والاعلامية، في تسليط الاضواء على “خطر الارهاب،” ورفعه الى صدارة قائمة الاولويات الاستراتيجية. تعريف الارهاب لم يتم حسمه للحظة، ليس لناحية قصور استيعاب العقل البشري، بل لما يترتب عليه من مخططات وتخصيص امكانيات وموارد، ونسج تحالفات اقليمية ودولية.
ووقع الاختيار مرحليا على “خطر داعش،” بكل ما يمثله من “تهديد للقيم الغربية،” خاصة بعد بروزه الدموي على الساحة الاوروبية. وتم حشد القوى والامكانيات الاقليمية تحت يافطة فضفاضة وجهتها الحقيقية تقويض الدول المستقلة والكيانات القومية، واستحضار مخططات التقسيم والتفتيت بعناوين مموهة.
وسرعان ما استعادت المؤسسة الاميركية الحاكمة “توازنها” واستدارت نحو اعتبار روسيا مصدر الخطر الوجودي لبلادها – بعد سلسلة من تصريحات سابقة مغايرة.
احدث تلك التعبيرات جاءت على لسان مدير وكالة الأمن القومي، جيمس كلابر، قائلا دون مواربة ان “روسيا” تشكل العدو الرئيس لاميركا “العدو الشرس والخطر المميت للولايات المتحدة ليس تنظيم الدولة الاسلامية، الذي باستطاعته الحاق الضرر وقتل مواطنينا.” (شبكة سي بي اس المحلية، 4 شباط الجاري).
واردف كلابر ان “تنظيم الدولة الاسلامية لا يمتلك الامكانيات المدمرة التي تتوفر لروسيا،” منوها الى الترسانة النووية الروسية والصواريخ الباليستية العابرة للقارات، والقاذفات الاستراتيجية. واستدرك كلابر لطمأنة الجمهور الاميركي قائلا ان الاجهزة الاستخباراتية الاميركية “تستبعد توفر النية لدى روسيا استخدام ترسانتها النووية لالحاق الضرر بالاراضي الاميركية.”
غرور يصطدم بمرارة الواقع
اطلق لواء الجيش المتقاعد، بوب سكيلز، تصريحات قاسية العام الماضي يصف فيها القوات العسكرية الروسية بانها “ضعيفة جدا خارج نطاق الترسانة النووية، بينما تمتلك الولايات المتحدة قوة عسكرية قوية ذات بأس.” اللواء يعمل كمستشار ومحلل عسكري في قناة “فوكس نيوز.” بالطبع لم يكن ينطق اللواء سكيلز عن هواه الشخصي بقدر ما كان يعكس نظرة متأصلة داخل المؤسسة العسكرية الاميركية.
سرعان ما اضطرت المؤسسة العسكرية الاميركية إلى “تعديل” تقييمها للقوات الروسية التي كانت بمثابة مقياس للقوات الاميركية عينها خلال فترة الحرب الباردة، واضحت تشكل “تهديدا قويا” لمخططات حلف الناتو. الفضل يعود الى الاداء البارز والمميز لروسيا في سوريا، او بعضه على الاقل، منذ شهور اربعة.
اجرى معهد راند، وثيق الصلة بالمؤسسة العسكرية الاميركية، دراسة مقارنة بين قوات حلف الناتو والقوات الروسية، بين عامي 2014-2015، خلص فيه الى القول بأن قوات الحلف “اضحت غير فعالة امام القوات الروسية .. بل ان جهدا مشتركا للقوات الاميركية ودول البلطيق يدعمه سلاح الطيران الاميركي سيجد نفسه عديم الفعالية لوقف اي تقدم روسي.”
ومضت راند في استفزاز المؤسسة العسكرية الاميركية قائلة انه باستطاعة القوات الروسية “اكتساح مشارف عواصم دول البلطيق في غضون 36 الى 60 ساعة واحتلال قواتها المدرعة عاصمتي ايستونيا ولاتفيا .. خاصة وان قوات حلف الناتو البرية لا تشكل ندا للقوات المدرعة الروسية.”
في اعقاب اسقاط تركيا القاذفة الروسية سو-24 نهاية العام الماضي، اوضحت المجلة العلمية الرصينة “بوبيولار مكانيكس،” 25/11/2015، ان روسيا “تتوق لمعركة” مع حلف الناتو او احد اقطابه؛ موضحة ان التقنية الروسية تتفوق على نظيراتها الاميركية في اربعة مجالات قد تصدم الغربيين: علم الصواريخ، تقنية الدفاعات الجوية، القتال الجوي، وتقنيات بالغة التطور في تطويع الطاقة الذرية.
واضافت المجلة الاسبوعية ان المؤسسة العسكرية الاميركية دأبت على النظر بازدراء للقدرات العسكرية الروسية، ابرز اسبابها ان روسيا تنفق 12% مما تنفقه الولايات المتحدة على الشؤون العسكرية، مما يعزز اعتقاد القادة العسكريين بأن الصناعات الروسية “متخلفة” عن نظيرتها الاميركية، وانها لم تفلح في تخطي مرحلة التطور التقني لعقد السبعينيات من القرن الماضي.
وتدرجت النظرة الاميركية صعودا لتجد افضل تجلياتها في الساحة السورية. وافردت يومية واشنطن بوست، 3 شباط الجاري، مساحة اقرار متأخر “للرئيس فلاديمير بوتين الذي استطاع تعديل اداء القوات السورية .. والتي اضحت في موقف الهجوم وسجلت (امس الثلاثاء) اهم انتصار لها باستعادة مدينة الشيخ مسكين من القوات المدعومة من التحالف الذي تقوده الولايات المتحدة.”
بالمقارنة، بدأت تتضح معالم الاستراتيجية الاميركية وحلف الناتو والتحالف الدولي في الزعم بمحاربة داعش وتمدد الدولة الاسلامية التي لم تصمد امام انجازات التدخل الروسي، بقوات محدودة عدديا، وتطور اداء حلفائه السوريين والقوى الرديفة.
في هذا السياق يستطيع المرء تلمس مصادر قلق الغرب، وحلف الناتو بالتحديد، كما جاء في دراسة معهد راند، التي ذكرت بعدم قدرة قوات الحلف على المواجهة او الصمود امام قرار روسي بالتحرك نحو دول البلطيق، ان تطلب الأمر، دون ان يلقى مواجهة فعالة.
قلق غربي له ما يبرره
وجاء في دراسة “راند” ان “.. الاستنتاجات والدروس أتت دون لبس او ابهام: في ظل الوضع الراهن فان حلف الناتو لن يقوى على الدفاع عن اراضي تتبع اعضائه المكشوفين (جغرافيا).“
من بين الثغرات التي حددتها دراسة “راند” نقص العربات والقوة النارية المطلوبتين لمواجهة العسكرية الروسية “التي ابقت على ترسانتها من العربات المدرعة والدبابات .. (اما) قوات الناتو الارضية فتعاني ايضا من نقص في معدات المدفعية المضادة للطائرات في مسرح دول البلطيق.”
كما لفتت “راند” الانظار الى ان مسألة المعدات ليست هي الوحيدة التي يعاني منها حلف الناتو، بل ايضا في طبيعة القوات المرابطة على تخوم الحدود الروسية التي لا تكفي للقيام بمهام قتالية طويلة، خاصة في مواجهة “جيوش روسية مؤللة.”
في هذه الشأن، يمضي الجدل في المؤسسة العسكرية الاميركية حول افضل السبل لتنشيط المؤسسة وامدادها بافضل المعدات. واتسم عهد الرئيس اوباما ونظرته للمؤسسة العسكرية بالاقلاع بعض الشيء عن الاستثمار في المعدات الميكانيكية التقليدية واستبدالها بوحدات قتالية اصغر حجما تتمتع بقدرة اوفر على الحركة ورفدها بوحدات من القوات الخاصة.
ايضا في ظل التواجد العسكري “غير المتناسق” في منطقة بحر البلطيق، يسود القلق داخل المؤسسة العسكرية الاميركية لتعزيز روسيا حضورها المسلح في جيب كاليننغراد على بحر البلطيق، المنطقة الواقعة بين بولندا وليتوانيا، كما لنوايا روسيا انشاء قاعدة جوية جديدة في روسيا البيضاء المجاورة، جنوبي حدود الجيب المذكور.
وعزز قلق الدوائر العسكرية بعضا مما جاء في استنتاجات دراسة “راند،” وذكرت في احداها “على العموم، وجدت قوات مشاة حلف الناتو نفسها غير قادرة على اتمام عملية تراجع ناجحة (وافتراضا) سيجري تدميرها في مرابضها.”
دراسة “راند” استندت الى فرضية توفر سبع كتائب عسكرية في المنطقة، منها ثلاث كتائب للمدرعات الثقيلة، تعززها قوة نارية من سلاح الجو والمدفعية كي تستطيع “منع احتلال سريع لدول البلطيق.” اما القوات الاضافية المطلوبة فتصل كلفتها الى نحو 2,7 مليار دولار سنويا.
على ضوء ما تقدم، باستطاعة المرء قراءة تصريحات وزير الدفاع الاميركي آشتون كارتر بمنظار ادق، خاصة لنيته الاستثمار في الاسلحة الثقيلة والعربات المدرعة لاستبدال المخزون الحالي في دول اوروبا الشرقية، بغية التوصل لاعداد مجموعة من لواءين مسلحين بمعدات ثقيلة للحفاظ على الحدود الشرقية لحلف الناتو.
القوات الاميركية الراهنة المتواجدة في اوروبا تشمل كتيبتي مشاة للجيش الاميركي، احداهما في ايطاليا والاخرى في المانيا، لكن رقعة انتشارهما متباعدة. بند الميزانية المخصص لتلك المهمة، كما اوضح كل من وزير الدفاع والبيت الابيض، مقداره 3,4 مليار دولار، من شأنه اضافة كتيبة اخرى للاعداد الراهنة، قوامها جنود اميركيون يتناوبون كل بضعة اشهر.
تجدر الاشارة الى ان تواجد كتيبة دائمة المناوبة تتقلص فعاليتها بالمقارنة مع كتيبة مماثلة مرابطة بشكل دائم، ولا تشكل الاولى بديلا ثابتا عن الاخرى في مواقع متقدمة؛ فضلا عن ان المعدات الثقيلة الموكلة بالكتيبة المعنية المتوفرة، مثل المدرعات التي سبقتها لساحات القتال، ينبغي ان ترافق القوات المخصصة قبل نشوب ازمة للاستفادة القصوى من امكانياتها المتاحة.
لا يغفل عن العسكريين ان تلك المعدات المخصصة لاراضي اوروبا الشرقية ستكون عرضة لاول ضربة عسكرية روسية قبل ان يتم نشرها، مما يتطلب من الولايات المتحدة زيادة اعتمادها على جسر جوي للامداد العسكري يعوض الخسارة، وبدرجة اقل الاعتماد على ما يمكن توفره في مخازن الناتو الاوروبية.
مهام اختراق اراضي اوروبا الشرقية قد توكل للفرقة 82، التي باستطاعتها انزال نحو ألفي عنصر من قوات المظليين، وعربات مدرعة، ومدافع الهاون من طراز 155 ملم، على شريط جغرافي يمتد ثلاثة أميال بهدف السيطرة وتوفير الحماية لمهبط جوي يمهد لاستقبال مزيد من التعزيزات، بما فيها وحدات “سترايكر” المدرعة المحمولة جوا، واتخاذ مواقعها القتالية على الفور.
التعديلات التي طرأت على الاستراتيجية الاميركية وحلف الناتو تدل بوضوح على مدى الاولوية التي يوليها البيت الابيض والبنتاغون لتهديد عسكري مصدره روسيا. اضافة لما تم الاعلان عنه من تحديث القوات المدرعة والثقيلة، اعاد البنتاغون الى الخدمة اسراب الطائرات المقاتلة المخصصة لقتال المدرعات من طراز A-10، والتي ستستمر في الخدمة الفعلية لعام 2022.
الوصفة التقليدية لسد الفجوات بضخ مزيد من الموارد المالية باتت لا تقنع اصحابها. وحذر عدد من الخبراء العسكريين “لسوء الحظ، فان تخصيص مزيد من الاموال لن تكفي لردع (الرئيس) بوتين عن شن عدوان جديد. القوات العسكرية لحلف الناتو في اوروبا لا تكفي. وفي حين ان تخصيص مزيد من الانفاق قد يصلح الاوضاع، الا انه لن يكون حاسما.”
ويسود اعتقاد جازم بين اوساط كبار المؤسسة العسكرية ان “تردد الرئيس اوباما،” في اتخاذ موقف اكثر تشددا حيال ازمة اوكرانيا والاسلحة الكيميائية السورية شكل عاملا “حافزا لعدوان بوتين .. الذي يدفعه في نهاية الأمر قناعته باستطاعته اعادة احياء موقع القوة العظمى لروسيا – في اوروبا والشرق الاوسط.”
وامعانا في طمأنة النفس، اضاف اولئك “في تلك الاوضاع، فان نشر الدبابات، وتخصيص مزيد من الاموال، والزج بمزيد من القوات لن يكون كافيا. يتعين على اوباما تحدي بوتين بقسوة والتوضيح له انه عازم على تصعيد التحدي وتعزيزه بنشر مزيد من الكتائب المدرعة في اوروبا الشرقية .. وامداد دول اوروبا الشرقية باسلحة حديثة.” يشار الى ان ايستونيا تلقت معدات وصواريخ مضادة للدروع من طراز “جافلين” لتعزيز قدراتها التصدي لهجوم روسي مدرع.
ويواجه الرئيس اوباما ضغوطا متصاعدة من قادته العسكريين الذين يطالبونه “بممارسة ضغوطه على دول حلف الناتو لزيادة معدلات الانفاق على الشؤون العسكرية – خاصة في مجالات معدات ثقيلة ومؤللة للمشاة.” الاحصائيات المتوفرة تفيد بأن حصة الولايات المتحدة من ميزانية حلف الناتو العسكرية تعادل 72%.
في اوج الحرب الباردة، نشر حلف الناتو نحو 20 فرقة عسكرية مؤللة بمعدات ثقيلة في اوروبا بمواجهة قوات الاتحاد السوفياتي، كان نصيب المانيا منها نحو 2200 دبابة؛ تم تخفيضها لنحو 250 دبابة بعد نهاية الحرب الباردة. في ذات السياق، تنوي بريطانيا سحب ما تبقى لها من لواء مدرع مخصص لحماية قيادة الحلف من القارة الاوروبية.
القادة العسكريون الاميركيون، والصقور منهم بوجه خاص، يحبذون مراجعة بلادهم لاولويات الانفاقات العسكرية لحلف الناتو، لا سيما بعد انضمام ونية انضمام دول اوروبا الشرقية سابقا الى مظلة الحلف، وتخصيص موارد كافية لاقامة منشآت جديدة داخل حدود تلك البلدان على تخوم الحدود المشتركة مع روسيا، واغلاق بعض المنشآت القائمة في الشطر الغربي من القارة الاوروبية.
ويدعون ايضا الى ضرورة زيادة الولايات المتحدة معدلات صادراتها النفطية ومصادر الطاقة الى القارة الاوروبية، من نفط خام وغاز طبيعي، بغية تقليص اعتماد اقطارها على واردات الطاقة الروسية وتعزيز قدراتها على المواجهة والحسم.
وفق تقديرات تلك المجموعة من القادة العسكريين فان رسم معالم استراتيجية فعالة لمواجهة “عدوانية روسيا” تتطلب رفدها بلواء عسكري اضافي في اوروبا، والاستثمار في معدات عسكرية مدرعة مرتفعة الكلفة ووحدات مؤللة، وتوفير معونات ملموسة لمعظم دول اوروبا الشرقية، ودعم توجهات استقلالية في مجال الطاقة لدول حلف الناتو.