الخطوة الثانية: إعمالُ الفكرِ …بقلم: بنت الأرض
في أواسط التسعينيّات شاركت مع أساتذة من جامعات عربية عدة، في مؤتمر هام عُقد في جامعة قابس التونسية، دعا إليه الاستاذ الدكتور محمد الباردي، عميد كلية الآداب في جامعة قابس، عنوانه: “المركز والهامش في الثقافة العربية”. تحدَثت البحوث المقدّمة عن العجز العربيّ خلال العصور عن خلق توازن بين تطوّر المركز والهوامش، وعن الهوّة الإجتماعية والفكرية والسياسية التي تنجم عن فقدان هذا التوازن. وفي التسعينيّات أيضاً، ألقى الأستاذ الدكتور عادل عبد السلام، أستاذ الجغرافية المتميّز في جامعة دمشق، نتائج بحث ٍعن الفوارق المرعبة التي كشفها بين ريف دمشق ومدينة دمشق، محذراً من الإنعكاسات المستقبلية الخطيرة التي قد تنجم عن مثل هذه الفوارق. وأتذكر كم كانت النقاشات غنيّة من أجل الإعتماد على هذه الأبحاث لمعالجة الواقع. ولكن مصير هذه الأبحاث وغيرها من جامعة قابس إلى جامعة دمشق إلى جامعات عربية عدة كان الأدراج المهملة، دون أن تجد طريقها للترجمة على أرض الواقع ومعالجة الثغرات التي أشارت إليها وتنفيذ المقترحات التي عمل الباحثون على تقصيها مستخدمين كلّ ما توصلوا إليه من بحث وفكر وبصيرة نافذة.
وكنت قد حضرت في جامعة دمشق مناقشة رسائل ماجستير ودكتوراه ذات صلة عميقة بالواقع وذات أهمية بالغة في تطوير هذا الواقع ونقله إلى آفاق جديدة عالمية ولكنّ هذه الرسائل جميعها بقيت حبيسة الأدراج. وأستذكر اليوم كل هذه البحوث العلمية التي جرت طوال عقود الثمانينيّات والتسعينيّات،وبالتأكيد في بواكير الالفية، لأني أشاهد اليوم أن غياب الفكر والثقافة والإنخفاض المرعب في مستوى التعليم في العالم العربي مسؤولان أساسيان عن تردّي الواقع العربي، الذي حين واجه التآمر والمخططات التدميرية للإنسان والأوطان، لم يجد لنفسه سنداً في الاستراتيجيات ومراكز الأبحاث والجامعات.
وهنا اليوم وبعد كلّ هذا المخاض العسير لهذه الأمة، وبعد أن انقشع الضباب، وتبيّن للقاصي والداني أن أمتنا العربية مستهدفة بحضارتها، وتاريخها، وثقافتها، وثرواتها وحتى في ثروتها البشرية، لا بدّ من أن تكون الخطوة الثانية والأهم في مراجعة الذات، هي إعادة الإعتبار للثقافة العربية والمؤسسات التعليمية في عالمنا العربي، لأن الثقافة هي حصن الهوية المنيع، والتعليم هو صناعة أجيال المستقبل ولا بدّ لهوية ومستقبل الأوطان من تفكير وتخطيط وتنفيذ لاسترايتجيات ثقافية وتعليمية ناجعة تعيد للعرب اعتبارهم داخل أوطانهم وفي الإقليم والعالم. إذ أن كلّ المعارك التي يخوضها العالم اليوم هي بالأساس معارك تعتمد على الفكر، سواء كان الحديث عن التقدم التقني والتكنولوجي، أو عن الصناعات الحربية، أو أي صناعات أخرى تخدم الإنسان، فإن الأصل هو “الفكرة”، والأصل في كل منتج مهما كان نوعه وهدفه هو “الفكرة”، ويقاس تقدّم الأمم اليوم بقدرتها على الإبداع، وبعدد الأبحاث التي تنتجها، وبعدد المبتكرات التي سُجلت باسمها، وبعدد الإختراعات التي قدمتها للإنسانية في مختلف المجالات. وحين كانت الضجة مثارة في العقود الأخيرة حول برنامج إيران النووي قلت في أكثر من مناسبة أن مشكلة الغرب مع إيران هي “المعرفة” لأن إيران تطوّر قدراتها المعرفية بشكل يحررّها تماماً من أي احتمال لسيطرة غربية. وهاهي وبعد توقيع اتفاقها مع الغرب، تبرز إيران على الساحة الدولية بأرقام الأبحاث التي تنتجها، وعدد العلماء الذين يتخرجون من جامعاتها، والتطوير المذهل الذي حققته في صناعاتها العسكرية والفضائية. وها هو رئيس وزراء العدو الذي وقف ضد الإتفاق النووي الإيراني يعبّر بعد توقيع الإتفاق عن قلقه من إنجازات إيران في البحث العلمي وهنا بيت القصيد.
الخطوة الثانية إذاً في عالمنا العربي، تكمن في إعادة جليل الإعتبار للفكر والمفكرين والثقافة والمثقفين وللمؤسسات التعليمية، على أن يشكّل هؤلاء نخبة وطنية منيعة لا أن يجسّدوا أمراض مجتمعهم من شخصانية وفردية. والخطوة الثانية أيضاً هي في إعلاء شأن الفكر الديني التوحيدي وإعلاء صوت المسلمين والمسيحيين المتنورين في وجه الظلاميين والتكفيريين، ومروّجي الإرهاب والعنف والجريمة من شيوخ النفاق والجهل والرجعية، وإدماج كل هذا في مؤسسات تربوية وتعليمية ناجعة وهادفة ترسم استراتيجية مُحكمة لصياغة أبناء المستقبل وإعادة تشكّل الهوية الثقافية التي عانت من التدمير المادي والأخلاقي والقيمي في السنوات الأخيرة.
كما أن الجيش الباسل الصامد يضحّي بأرواحه من أجل إنقاذ البلاد من آثام التكفير والعمالة والإرهاب، فإن معركة أخرى لا تقلّ أهمية لا بدّ وأن تبدأ على أيدي الوطنيين المتنورين العارفين الحريصين لتمحيص الواقع الثقافي والتعليمي والديني ووضع الأسس الكفيلة بالإرتقاء به، من أجل وضع دعائم مستقبل عربي لا تهزه رياح الجاهلية ولا تتمكن حتى عواصف البغي والعدوان من اقتلاع جذوره. وهذا يتطلب أيضاً التغيير في المفاهيم القيمية في المجتمع والعودة إلى ما تربينا نحن عليه منذ عقود والذي كان يضع المعلم في منزلة القدّيس، والشاعر، والفنان، والخطيب، والمفكر، والمبدع، في موقع لا يقدّر بثمن، ولايقارن بكلّ أثمان الدينا الماديّة، تماماً كما تفعله اليوم الأمم المتقدمة.