تركيا في سوريا: حرب المئة كيلومتر!: محمد نور الدين
انهار مؤتمر «جنيف 3» أسرع مما توقع البعض. في الأساس لم ينعقد المؤتمر. أحد أهم أسباب فشل المؤتمر أن السياق السياسي له لم يكن لمصلحة المعارضة والدول الإقليمية والقوى التي تقف خلفها .
لم تتحدد في الأساس القوى الإرهابية من غير الإرهابية، وفقاً لقرار مجلس الأمن الدولي 2254. لذا لم يعرف أحد مع مَن يفاوض. حتى الممثل الأممي ستيفان دي ميستورا لم يكن يعرف أسماء المعارضة. وحده وفد الحكومة السورية كان واضحاً. في ما تبقى كان الإرباك الواضح للدول التي ترعى المعارضة المسلحة.
لا ينتظر احد أن تنتهي أزمة عالمية، مثل الأزمة السورية، خلال وقت قصير، فهي من التعقيد بما يكفي لعدم توقع شيء. لكن يمكن أن نسجل الملاحظات التالية:
1 ـ أزمة التمثيل:
أخذ «جنيف 3» وقتاً طويلاً من التحضيرات. كان الأكثر حركة لهذه الناحية. والاجتماعات والتنقلات والضغوطات لم تتوقف على امتداد أسابيع. لكن عشية المؤتمر لم يكن أحد يعرف بالضبط هوية المشاركين. خطأ دي ميستورا أنه كان يريد عقد المؤتمر بأي ثمن، لتجيير ذلك إلى حسابه الشخصي قبل أن يغادر ربما فجأة المسرح السياسي. لم يرسل دي ميستورا دعوة إلى أسماء محددة في المعارضة. ترك الآخرين يتحكمون بالأسماء. فأمّحت المسافة بين المعتدل والإرهابي في مخالفة لأحكام القرار 2254 ومعايير فيينا.
ولم يضع دي مستورا معايير واضحة لحيثية التمثيل لمن يشارك في المؤتمر. فجاء إلى جنيف من لا يمثل سوى شخصه، فيما غابت عنه قوى تملك حيثية تمثيلية كبيرة ومؤثرة على الأرض.
مثال على ذلك «قوات الحماية» الكردية، بفصيلها الأبرز «حزب الاتحاد الديموقراطي» الذي يرأسه صالح مسلم.
هذا الحزب يجمع صفات ثلاث، إنه يمثل المكون الأبرز لأكراد سوريا. صحيح أن هناك أشخاصاً في وفد الحكومة ووفود المعارضة، ولكنهم بالطبع لا يعكسون تمثيلاً واقعياً على الأرض. ثم إن «حزب الاتحاد الديموقراطي» من أبرز التنظيمات التي تقاتل الإرهاب في سوريا، ولا سيما «داعش» و «جبهة النصرة». فضلاً عن أنه يسيطر على ما لا يقل عن 15 في المئة من الأراضي السورية.
عندما لا يدعى صالح مسلم للمشاركة في مفاوضات جنيف، فأي مصداقية تبقى للمؤتمر؟. هنا فتّش عن التركي الذي ضغط وهدد بأنه إذا تمثل «حزب الاتحاد الديموقراطي» فسوف يقاطع المؤتمر. رضخت روسيا والولايات المتحدة لاستيعاب الموقف التركي، وليس تأييداً له، في موقف تكتيكي ومؤقت في انتظار مشاركة الحزب في جولات أو مؤتمرات مقبلة. الانتصار التركي لم يكن على أرض الواقع، بل بقي في الإطار النظري الذي لا يغير من المواقف وفي الميدان.
في المواقف أن منسق الرئيس الأميركي باراك أوباما لمحاربة داعش بريت ماكغيرك زار في الثلاثين من كانون الثاني مدينة عين العرب (كوباني) في شمال سوريا، والتقى بمسؤولي «حزب الاتحاد الديموقراطي» الكردي هناك.
في الساعات نفسها كان مساعد وزير الخارجية الأميركي طوني بلينكين يلتقي في جنيف برئيس الحزب صالح مسلم.
التباين بين واشنطن وأنقرة بشأن قوات الحماية الكردية ليس بحاجة لمناقشة. الموقف التركي أُفرغ من مضمونه. أولاً بتأجيل جنيف، وثانياً بلقاءات المسؤولين الأميركيين من أكراد سوريا، وثالثاً بالموقف الروسي من أنه لا يمكن لجنيف أن ينعقد أو يخرج بنتيجة من دون «حزب الاتحاد الديموقراطي». ورابعاً كانت ردة الفعل الكردية السورية أعلى من قبل، بالدعوة لمحاربة تركيا في حال تدخلها في سوريا، وخامساً بانضمام قوى أخرى إلى الأكراد بعدم المشاركة في جنيف مثل «مجلس سوريا الديموقراطي» برئاسة هيثم مناع.
لم تربح تركيا من هذا الموقف سوى كسب المزيد من العداء الكردي لها، الذي سيُوظف حتماً في مزيد من التصميم للتصدي لمخططاتها في سوريا ما دفع رجب طيب أردوغان للاعتراف ضمناً بفشل هدفه في إقصاء «حزب الاتحاد الديموقراطي» الكردي بتساؤله عن سبب وعبثية انعقاد مؤتمر جنيف.
2 ـ الوضع الميداني:
التطورات الميدانية في سوريا تذكّر بما كان قبل سنة تقريباً. تقدم للجيش السوري وحلفائه لتحرير نبل والزهراء، لكن تدفق آلاف المقاتلين من تركيا أفشل محاولة تحرير نبل والزهراء. الوضع الآن مختلف. التدخل الروسي من جهة، وزيادة دعم حلفاء دمشق من جهة ثانية، أحدث فرقاً كبيراً في المعادلة. دمشق وحلفاؤها يكررون، وهم على حق، أن الجانب الأكبر من استطالة الأزمة في سوريا ومن تصاعد الإرهاب ناتج عن فتح تركيا حدودها منذ خمس سنوات لكل المسلحين والأسلحة. وبالتالي فإن استراتيجية دمشق وحلفائها تغيرت. التغطية الجوية الروسية كانت أساسية. وروسيا دفعت ثمناً لذلك إسقاط تركيا قاذفة روسية في 24 تشرين الثاني الماضي، ومقتل أحد طياريها. التركيز كان على تلك الجبهات المفتوحة على الحدود التركية في ريف اللاذقية وشمال حلب.
التقدم الميداني البارز للجيش السوري، ولا سيما في ريف اللاذقية، أفقد أنقرة صوابها، واكتملت الهستيريا التركية بعد إكمال طوق حلب، لأن تركيا تعرف أهمية ذلك.
لا ينزل اسم حلب من على لسان أردوغان. حلب هي عاصمة المشروع التركي في سوريا، بل في المنطقة أيضاً. كأنها لا تزال مستملكة عثمانية. لذا فإن أي تراجع له هناك هو وأد لمشروعه وأحلامه. صحيح أن بعض المعابر والجبهات الحدودية لا تزال مفتوحة في الجهة المقابلة لجسر الشغور من تركيا، لكن خط الإمداد الأسهل للقوات العسكرية، من دبابات ومدرعات، ومن انكشاف للخريطة الجغرافية ولأي عملية عسكرية تركية ستكون من الباب الشمالي لحلب، وهو الممتد من جرابلس إلى عفرين والبالغ طوله مئة كيلومتر.
عندما كان «داعش» يسيطر على كامل الحدود السورية مع تركيا لم تنبس أنقرة ببنت شفة. وعندما سيطرت وحدات الحماية الكردية على هذا الشريط، بعد معارك طاحنة مع «داعش»، أطلقت أنقرة صفارة الإنذار، معتبرة الأكراد تنظيماً إرهابياً، وراسمة خطوطاً حمراً، بأن أي عبور لقوات الحماية الكردية نهر الفرات من عين العرب إلى جرابلس هو خط أحمر.
ليس من أسباب موجبة للتخوف التركي من «داعش» على أمنها القومي، لكنها الجبهة الوحيدة التي يمكن لتركيا أن تستفيد منها لتبرير تدخل عسكري هناك. لذا رفعت تركيا شعار الحرب على «داعش». لكن تركيا لن تبادر إلى عمل عسكري هناك بسبب «داعش»، بل لتكون منطلقاً إلى ما بعد ذلك الشريط وصولاً إلى حلب.
3 ـ تركيا والمئة كيلومتر:
لا يمكن تقدير أهمية هذه المئة كيلومتر لتركيا. هي شريان الحياة الوحيد المتبقي للتطلعات التركية في اتجاه حلب. لكن العمليات الأخيرة للجيش السوري قلبت المعادلة، ووضعت تركيا في موقف صعب للغاية. ذلك أن تخطي تركيا للحدود مباشرة ليس بالأمر السهل، ما لم يكن على قاعدة «ومن بعدي الطوفان». ذلك أن جميع القوى الموجودة على الأرض هناك معادية لتركيا، من قوات الحماية الكردية التي ستتدخل لصد أي هجوم تركي إضافة إلى القوات السورية. وفي الأفق الجوي تظهر الطائرات الروسية، حيث تحدى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أردوغان بأن يجرب انتهاك المجال الجوي السوري.
احتمالات التدخل العسكري التركي قائمة لكنها ضعيفة. وتركيا ستلجأ إلى أساليب أخرى قبل أن تقرر ما إذا كانت ستدخل عسكرياً بنفسها أم لا. التدخل العسكري التركي يعني معادلة بسيطة وواضحة: نشوب حرب تركية ـ روسية. وفي ظل الاندفاع الروسي، ومصيرية الموقع السوري لموسكو، فإن أحداً لا يشك في أن تركيا ستغرق في المستنقع السوري، وستواجه أعشاشاً من الدبابير من كل الجهات. ما لم يرتكب أردوغان حماقة موصوفة، فإن تركيا لن تجرؤ على التدخل، وستكون أمام دفن آخر رمق من أحلامها العثمانية. فيما تبقى الحدود التركية المواجهة لجسر الشغور محدودة التأثير قبل حتمية سقوطها بيد الجيش السوري.
تمضي تركيا إلى خسارة ما تبقى من تأثيرها في سوريا، ومن الإعلان الكامل عن إفلاس سياستها هناك. المعارضة المسلحة تتراجع. قوات الحماية الكردية تلتقي مع مسؤولين أميركيين وتحظى بدعم روسي. المساحة الجغرافية للنفوذ التركي تتقلص في شمال حلب وعلى حدود لواء الاسكندرون. قوافل اللاجئين تتدفق على تركيا. المسلحون سيفرون في النهاية إلى الداخل التركي. وفي الداخل تتواصل المعارك العنيفة بين الجيش التركي ومقاتلي «حزب العمال الكردستاني» في المدن الكردية، ولا سيما في ديار بكر. وليس من داع لتغير أنقرة سياساتها السورية. هي تنهار من تلقاء نفسها، ومن قاد تركيا إلى هذه الهزيمة الإستراتيجية من جراء رهانات مغامرة وحسابات خاطئة عليه أن يدفع الثمن عزلاً أو عزلة.
(السفير)