مقالات مختارة

الخطوة الأولى بنت الأرض

 

في زاويتي الأسبوع الماضي، على هذه الصفحة، فنّدت ماذا يحاول الأعداء والخصوم فعله بهذه الأمة، وما هي مخططاتهم للمئة عام القادمة لتحويلها إلى ولايات إسرائيلية شبيهة بالولايات المتحدة، التي قامت أيضاً على أنقاض حضارة وشعب عريق وصاحب أرض وتاريخ مازالت بقاياه متناثرة هنا وهناك في سجون يسمونها محميات، يزورها السّواح في أكثر من ولاية دون أن يتوقف أحد ليستمع إلى عمق معاناة هؤلاء والكوارث التي سبّبها لهم المستوطنون الجدد. وهذا لا يعني، طبعاً، أنّ هذا قدر، وأنه حادث لا محالة، على العكس، إنّ الهدف من هذا الاستقراء هو اتخاذ الخطوات والتدابير التي تمنع أعداءنا من تحقيق أهدافهم. وقد اطّلعتُ على بعض التعليقات، والتي في مجملها اعتبرت العمل العربي نوعاً من الترف، وأكّدت على ضرورة العمل على مستوى سورية التي عانت الكثير خلال هذه الأزمة. مع كلّ التقدير لعمق المعاناة التي مرّ بها بلدنا وشعبنا، فلا بدّ أحياناً من التعالي على الجراح من أجل اجتثاث مصدر الألم والجرح، وحتى احتمال عودته بعد حين .

في تقرير لأحد المراكز الأوروبية قبل «الجحيم العربي» بسنوات، كشفت دراسة تفصيلية أُجريت على الشباب العرب في بلدان عربية عدة أنّ 70% من الشباب العرب يحلم بالهجرة، وأنّ الأسئلة التي تمّ توجيهها إلى معظم خريجي الجامعات العربية والتي تتلخّص في ماذا تنوي أن تفعل بعد التخرّج، كان الجواب عليها: أرغب في السفر خارج البلاد، والبحث عن فرصة عمل في دولة أوروبية. هذا قبل ظهور الاضطرابات في السنوات الأخيرة، وقبل أن يتحول بعض هؤلاء الشبان إلى قوارب الموت أو مخيّمات الذلّ والتهديد بترحيلهم هنا وهناك. فهل يعني أنّ هؤلاء الشباب كانوا يشعرون بالغربة أصلاً في بلدانهم، ولماذا؟ وهل هذا يعني أنّ الأوطان التي ولدوا وترعرعوا فيها لم تتمكن من إقناعهم أنهم مواطنون متجذّرون بحيث يكون هدفهم الاستمرار فيما بناه الآباء والأجداد، وتربية أولادهم على الاستمرار فيما سيبنوه هم أنفسهم في هذه البلاد. أوَ لا يعبّر هذا عن إزاحة نفسية للشباب العربي جديرة بأنّ تُدرّس وتُعالج؟ خاصّةً وأنّ ما سُمّي بالربيع العربي قد أضاف أسباباً وجيهةً للهجرة؛ من فقدان الأمان، إلى فقدان الاستقرار والعمل، أو البيت والعائلة؟

إنّ تطوّر الأحداث في عالمنا العربي جدير بوقفة جريئة وشفافة تراجع ما حدث منذ منتصف القرن العشرين إلى حدّ اليوم، وتحاول اكتشاف مواطن الخلل ومعالجتها، وهذا ليس بالأمر السهل على الإطلاق، ولكنه شرط ضروري لبقاء واستمرار هذه الأمة. هذه الوقفة ضرورية على المستوى السياسي والاجتماعي والثقافي والأخلاقي واللغوي، وحتى العائلي. إذ تعرّض مجتمعنا لإزاحات عدّة، وعلى مستويات عدّة، وخلال فترة تعتبر قصيرة نسبياً، بحيث لا يعلم أحفاد اليوم شيئاً عن أسلوب الحياة التي يتحدّث عنها الأجداد، أو حتى الآباء، أحياناً، وهذا ليس دليلاً على سرعة التطوّر، كما يحلو للبعض أن يحلم، بل دليل على سرعة الانزلاق عن الهوية الأصلية، والتراث المتجذّر، واللغة الأم، والإرث الحضاري والثقافي الجدير بأن يتوارثه جيل عن جيل، ويسلّمه بأمانة وعناية للجيل القادم.

ولأتناول هنا، في هذه العجالة، مثالاً حيادياً قد لا يثير شهوة أحد للغضب أو المشاكلة. لغتنا العربية؛ هذه اللغة التي هي أقدر لغات الكون على التطوّر والاشتقاق، والتي هي لغة القرآن الكريم، والتي هي وسيلة قراءة مخزون عظيم من الشعر والفكر والفلسفة والأدب. ماذا حلّ بها بعد الاستقلال، وليس خلال سنوات الاحتلال الأجنبي؟ شهدنا في عواصم ومدن عربية عدة مدارس أجنبية يدرّس بها أبناء الوطن، ولا يعرفون عن لغتهم إلا النذر اليسير، ليتحولوا بعد ذلك إلى نخب ثقافية في بلدانهم تفتخر بمعرفتها بلغات وكتّاب أجانب، وتجهل لغتها وتاريخها وكتابها ومخزونها الثقافي. هذا الانزياح عن الجذور والأصول تكرّر في اختصاصات عدّة، ومواضيع مختلفة بحيث أصبحت مسألة الانتماء مهزوزة في أذهان الأجيال، وأصبحت الهجرة للبحث ليس عن عمل فقط، وإنما عن هوية، وجواز سفر، ومستقبل للأطفال أمراً مشروعاً ومقبولاً في معظم بلداننا العربية. وقِسْ على هذا النموذج من مناهج تربوية وجامعية، إلى أزياء شعبية ووطنية، إلى طريقة البناء والعيش، إلى أهمية وموقع الآثار والماضي في أذهان الأجيال الحالية والمستقبلية، إلى بناء الشخصية العربية فكرياً وسياسياً واجتماعياً، إلى موقع الأوطان في ضمائر وقلوب الناشئة. كلّ هذا وغيره مازال يعاني من إشكاليات جديرة بالتوقف والبحث، ملخّصها وأساسها فهم أهمية المواطنة والاعتزاز بالأوطان والتضحية في سبيلها بدلاً من الثراء على حسابها أو المتاجرة بها مع الخصم والعدوّ لأنّ الخاسر الأكبر من هذه النزوة هم الأشخاص أنفسهم. الوطن بتاريخه ولغته وحضارته ووديانه وجباله، هو الحضور الأهمّ والأقوى في تاريخ الدول التي بنت أوطاناً وحضارات، أما الشخصنة والفردية والخلاص الذاتي على حساب الأوطان، فيذهب جفاء هو وأهله. فهل من خطوة أولى من مراجعة صادقة وجريئة تتبعها خطوات كي تبقى أوطاننا عزيزة شامخة على مرّ الأجيال والعصور؟

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى