مقالات مختارة

أعاجيب غاز المتوسط: تسيبراس حليفاً لإسرائيل! وسيم ابراهيم

 

لقاء القمة الثلاثي، الإسرائيلي والقبرصي واليوناني، يأتي ليكرّس قيام محور جديد في المنطقة. قاطرته اقتصادية تجرّ خلفها السياسة، وجوهره تحقيق مصالح انتاج وتسويق الغاز القابع في الحوض الشرقي للمتوسط. هناك، لم يحتج رئيس حكومة الاحتلال الاسرائيلي تطمينات حول صلابة «الشراكة» الناشئة. قبل أيام قليلة، تلقى تأكيداً، لا يخالجه أي شكّ، بوجود حليف جديد لحكومته، يمكن الاعتماد عليه في المماحكة المستمرة مع الاتحاد الأوروبي: إنها حكومة اليونان، حكومة حزب «سيريزا» اليسارية مرة واحدة.

حينما كان وزراء الخارجية الاوروبيون يعقدون اجتماعهم في بروكسل، في 18 من الشهر الحالي، طالت ساعات النقاش من دون أن تصدر مقررات منتظرة. خرجت تسريبات بأن الجدل محتدم داخل صالة الاجتماع. المسألة بدت غريبة بكل المقاييس. قبل كل شيء، ليس هناك جديد بارز يمكن انتظاره، خصوصاً أن المقررات تخصّ ملف عملية السلام في الشرق الأوسط.

لكن بعض الديبلوماسيين الخارجين جعلوا المفاجأة من عيار ثقيل: هناك امكانية أن تتم إزالة المقررات عن الطاولة بسبب الخلاف حولها، اليونان تعطّل صدور المقررات الأوروبية لأنها تراها «قاسيةً» على اسرائيل. نسجاً على مفارقات هذا المنطق، كانت طلائع «قساة» القلوب تضم فرنسا وألمانيا وبريطانيا.

لكن قبل ذلك، لم يكن النقاش يدور حول مسودةٍ «خام»، بل حول وثيقة تمت صياغتها والموافقة عليها بحضور مسؤولين يونانيين، لتبقى مصادقة وزراء الخارجية عليها. هنا كان الوزير اليوناني والشيوعي السابق، نيكوس كوتزياس، يقود معركة الملاطفة لإسرائيل مع بضع دول عاضدته، وهي قبرص، رومانيا والمجر.

الحساسيات الاوروبية من حكومة «اليسار» اليونانية فرضت الحذر. تقريباً، لا أحد يلتقي معها. لكن مصادر ديبلوماسية، واسعة الاطلاع على مداولات القضية، أكدت لـ «السفير» أنه «لولا اليونان، لكانت المقررات خرجت كما أقرتها اللجان المتخصصة»، قبل أن توضح أن «المفاجئ لم يكن الموقف بحد ذاته، بل أن تصل الأمور حدّ تعطيل وحدة الموقف الاوروبي ما لم يتم تعديل النص».

كي لا يذهب الخيال بعيداً، لم يكن النص الأصلي يريد معاقبة الاحتلال الاسرائيلي اقتصادياً، مثلاً، ولا حتى حظر استيراد المستوطنات على أبسط تقدير. «القسوة» التي أرادت اليونان إزالتها تعلقت بـ «لغة» صياغة المقررات، تلك التي تخشى اسرائيل من أن إعلانها يخفي نوايا في تصعيد الضغوط عليها تجاه سياستها الاستيطانية.

الوصول في النهاية إلى صيغة وسطية اقتضى إزالة عبارات محددة من المسودة، أبرزها الفقرة التي تقول إن «الاتحاد الاوروبي سيواصل بشكل قاطع وصريح التفريق بين اسرائيل وجميع الأراضي التي احتلتها في 1967»، على أن يتم ذلك عبر «عدم انطباق جميع اتفاقات الاتحاد الأوروبي مع دولة اسرائيل، في الصياغة والتطبيق، على هذه الأراضي».

تسرّب أخبار تلك المداولات اضطر وزارة خارجية اليونان لمحاولة تلافي الضرر بصورتها. المتحدث باسمها أصدر بياناً يعتبر أن المقررات التي خرجت «تكاد تكون متطابقة مع تلك التي صدرت في تموز 2015». كلامه نقل نصف الحقيقة. ما خرج يبدو فعلاً «متطابقاً» مع السابق، لكن حينها لم يكن الاوروبيون شرعوا في تبني ضغوط ملموسة لمواجهة الاستيطان، تحديداً المطالبة بتطبيق التمييز ضد بضائع المستوطنات.

بيان خارجية اليونان حمل أيضاً ملامح التغيّر في سياستها، إذ عبر عن الاستعداد للعب دور «الوسيط النزيه»، من موقع كونها «شريكاً لإسرائيل» من جهة، وفي المقابل «دولة صديقة للدول العربية والشعب الفلسطيني».

انحراف الصفات يتبع المناسبة والمكان، بين أخ وصديق وشريك وما شابه. هذان الأخذ والرد جاءا بعد تبني برلمان أثينا مطلب الحكومة الاعتراف بدولة فلسطين الشهر الماضي. حينها، قال رئيس الوزراء الكسيس تسيبراس، بجوار نظيره الفلسطيني محمود عباس، إن حكومته ستكمل الاعتراف في «الوقت المناسب»، مراعيةً «العلاقات الأخوية مع الشعب العربي وعلاقات التعاون مع اسرائيل».

لكن ما يهمّ هو الانعطاف «الناجز» للموقف اليوناني الجديد تجاه اسرئيل. سجالات وزراء الخارجية صارت من الماضي، لكن وجهة سياسة اليونان متواصلة.

تقول مصادر ديبلوماسية رفيعة المستوى، تابعت المداولات خلال السنوات الماضية، إن إلصاق ذلك بحكومة «سيريزا»، التي لم تمضِ عاماً في السلطة، ليس دقيقاً: «القضية ليست جديدة. منذ سنة ونصف، أو سنتين، هناك اتجاه مختلف عن السياسة التقليدية اليونانية»، أما أبعاد ذلك فتردها إلى «مصالح محور غاز شرق المتوسط، فهذه المصالح باتت تنعكس داخل المؤسسات الأوروبية وفي أماكن أخرى، هذا التحول بدأ مع الحكومة الماضية، ويبدو أن تقييمهم هو أن المسألة تتعلق بمصلحة اقتصادية مهمة، والحكومة الحالية مستمرة في مراعاة هذه المصالح».

الحديث عن مصالح «الغاز» يدور حول الاكتشافات الحديثة والواعدة في الحوض الشرقي للمتوسط. احتياطات الغاز هناك تحتاج لتطوير حقولها واستخراجها، علاوة على النقل والتصدير. وسط ذلك، تطمح اليونان لأن تكون منصةً رئيسية لتصدير الغاز إلى أوروبا، مع وجود خطط لمدّ أنابيب نقل الغاز من اسرائيل وقبرص إليها.

وفق المصادر، القضية باتت تشكل إطاراً لتحرك السياسية اليونانية: «إنهم لا يضعون ذلك في إطار دعم اسرائيل، بل يريدون أن يكونوا النطاق والممثل لمصالح شرق المتوسط الغازي، يصح الأمر أيضاً بالنسبة لمواقفهم المؤيدة لحكومات مصر ولبنان، فهم يطمحون لقيادة مستقبل هذا القطاع الاقتصادي» داخل التكتل الأوروبي.

الدعم الديبلوماسي ليس كل شيء. التعاون العسكري الاسرائيلي مع اليونان في أفضل أحواله، حتى أن بعض الخبراء يقولون إنه «غير مسبوق». يذكرون تحديداً تضاعف عدد المناورات العسكرية، والامتيازات للطيران الحربي الاسرائيلي كي يجري تدريبات في أجواء اليونان.

المسألة، في هذا السياق، ليست خطوة تكتيكية. أثينا تنظر إلى المحور الجديد على أنها مسألة استراتيجية، بعيداً عن الجدل الجاري الآن حول الجدوى الاقتصادية، لجهة تدني أسعار النفط وتكلفة منصات استخراج الغاز من قعر المتوسط. لكن للقضية تشابكات أخرى. الاتحاد الأوروبي يرحب دائماً بتقليل الاعتماد على الغاز الروسي.

لكن ليس معروفاً كيف ستدير دول «محور الغاز» المتوسطي علاقتها مع موسكو، فالسوق الأوروبية مصدر مهم لروسيا المهيمنة فيها، اقتصادياً وسياسياً، ولم تتسامح سابقاً مع أي محاولات للاقتطاع من حصتها.

مع ذلك، يبقى الواضح الآن أن روابط هذا «المحور» يتمّ تمتينها. مصر داخل حسابات تلك الطموحات الاقتصادية، بطرق عديدة، منها إمكانية استخدام منشآتها لتسييل الغاز. أبرز مؤشرات ذلك كانت قمة القاهرة الثلاثية، بين مصر واليونان وقبرص أوائل 2015. يجمع هذا الرباعي أيضاً علاقات متوترة مع الجار البحري التركي، متراوحة بين التأزم إلى الخصومة.

لكن يكفي الاتفاق على تكريس جامع كبير، عبر مشروع اقتصادي استراتيجي، ليكون قاطرة تجرّ خلفها كلّ شيء: شراكة سياسية وعسكرية متقدّمة، ليس معروفاً أين تبدأ وأين تنتهي، مع حاجات لترتيبات أمنية، جماعية وأكيدة، لحماية الاستثمارات المشتركة الموعودة.

(السفير)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى