مأساة جمهورية سوكلين
غالب قنديل
يتحول المشهد اللبناني إلى حالة سريالية تجمع بين التهريج والتراجيديا في حلقة مفرغة من الفضائح المتلاحقة يختصرها غرق البلد والناس في تلال النفايات وسط أهوال يتناقلها الجميع ( فوق وتحت ) بفتور وبلادة ولا مبالاة عن أوبئة وأمراض محتملة والسيرة ذاتها تعبر صالونات الدرجة الأولى كما تشغل جلسات المتعبين في الأكواخ الغارقة بمستنقعات المجاري وسيول المطر فبلد الينابيع لم يتوقف عن هدر الثروة المائية ولا عن تلويثها بانتظام متقن وما بينهما من منازل الفئات التي كانت وسطى قبل الزمن الحريري وفيها اعتملت حالة من الغضب على طوفان الوسخ ولدت هبة ما لبثت ان خمدت .
في كل جولة من البحث عن مخارج لأزمة النفايات فضائح جديدة وبعدما كشفت المناقصة الشهيرة قليلا من المعلومات عن العمولات والحصص تكرست الشكوك في لعبة عروض أسعار الترحيل والشركات المجهولة والمعلومة والحصص الخفية والمعلنة ويبدي أهل السلطة حزما في رفض الحل الطبيعي والجذري الذي يأجلونه بذرائع ساقطة خلفيتها الفعلية هي تجديد تقاسم المغانم وتثبيت إلغاء مفهوم الخدمة العامة لحساب الشركات وأصحابها ورعاتها من السياسيين والنافذين والتقاسم شبهة مقيمة في كل تلزيم وكل وصفة وصفقة دارت حول ملف النفايات الذي فجره نزاع الحصص في جمهورية سوكلين .
نعم إنها جمهورية سوكلين وليس في ذلك ما يختصر قوة الشركة التي تخلت عنها قوى الحكم في لحظة نزاع ظاهرة على الحصص استعصت على الحل طيلة سنتين من خلال قضية مطمر الناعمة وقبل ذلك بحوالي عشرين عاما تخلت لها السلطة عن وظيفة عامة للبلديات مقابل اموال عامة صرفت باسمها بينما قال مسؤول الملف المفوض من قبل الحكومة مؤخرا إن أحد تلك العقود لم ينفذ يوما وكانت قيمته المالية تصرف دوريا وهي مئة وخمسون مليون دولار سنويا كما ترددت أقوال عن تنفيعات واموال توزع بعقود وهمية هنا وهناك .
المقصود بتسمية جمهورية سوكلين هو توصيف آلية عمل وذهنية سياسية في قيادة البلاد وإدارة الشان العام وأركانها المحددة عمليا هي التالية :
1- نسف قواعد الخدمة العامة التي هي ركيزة مفهوم الدولة واعتماد الخصخصة بشل المؤسسات العامة وإعاقتها وحرمانها من القدرة والخبرة في ممارسة مسؤولياتها المحددة في القانون وتحويلها إلى اجسام طفيلية غير منتجة يسهل حذفها لصالح الشركات الأجنبية والمحلية التي يملكها النافذون او يتقاضون منها عمولات الصفقات والعقود.
2- تحويل ممارسة المسؤولية السياسية في السلطة إلى عملية تقاسم مغانم عبر تلزيم الخدمات العامة وهذا ما اظهرته مناقصة ما بعد سوكلين من خلال ظهور ست شركات مصنفة سياسيا وطائفيا أسندت إليها بالشراكة الباطنية في ما بينها عملية تقاسم جبنة النفايات الدسمة التي اظهرتها أرقام التعاقد وآليات تقديم العروض المكشوفة بالتبادل في مهزلة فرضت إلغاء المناقصة لكنها لم تلغ حقيقة انها صورة فعلية لعقلية الحكم بالمنافع والتقاسم والخصخصة وانظروا إلى تراث الهاتف الخلوي ودعكم من اكوام الدجل عن القضايا وخطب الدولة العصرية ومصالح المواطنين وكل ذلك الهشت الفارغ .
3- الخصخصة والتقاسم هما غطاء للنهب وشبق اللصوصية عند القوى النافذة يعطل كل شيء ويمنع حتى المخارج التي يريدون بها حفظ ماء الوجه وهاهي جبال النفايات تساكن اللبنانيين في فصل الشتاء بعدما امضت الصيف والخريف ومهزلة الترحيل ليست أقل فضائحية من سابقاتها .
إن اليأس والإحباط وتخلف مستوى الوعي السياسي عند الشعب اللبناني يجعله أسيرا للعصبيات الطائفية التي يتقن الفريق الحاكم استعمالها لحماية مصالحه وخياراته ولتعطيل أي مسار تصاعدي لحركات الاحتجاج التي يسهل شقها واخذ مكوناتها إلى تناحرات ومنافسات بائسة وإلى احتراب طائفي ومذهبي لأن الناس مستسلمون لقدر الحكم اللصوصي الذي لا شيء فيه يدعو للفرح او التفاؤل والأمل فقد تاه الناس بعيدا في الفردانية ولو وجد تاجر ما في أسواق العالم آلة تقدم حلا فرديا لأزمة النفايات لحصد المليارات في لبنان كما فعل تجار المولدات وباعة غالونات المياه وموزعو الصهاريج وغيرهم وحتى هؤلاء موزعون سياسيا وطائفيا بين مواقع النفوذ التي تستطيع ضمان التراخيص والحماية وعدم التعرض للمحاسبة عند مخالفة القوانين تماما كما هي حال الإعلام المرئي والمسموع بعد صفقة التقاسم الحريرية عام 1996 .
هل من وصفة غير الثورة لهذا الواقع المجبول بالوجع والتفاهة المؤلمة ؟ ولكن هل تولد ثورة من غير حركة ثورية وبرنامج ثوري ؟ الغوغائية المجربة في تاريخنا ومن حولنا في الوطن العربي تورث الفوضى وتشيع الندم على أيام زمان !
الخلاصة طالما لاحركة ثورية ولا برنامج ثوري ولا انبثاق لتيار شعبي نهضوي عابر للطوائف فالمأزق سوف يتجدد والصفقات سوف تستمر طالما الناس غارقون في المتاهة والنخب المترفة عاكفة عن ممارسة شيء آخر غير اللغو الفارغ والمماحكات السخيفة في حلقات التيه الأميركية.