أسعار سوق التهريب تحددها سياسات أوروبا وسيم ابراهيم
أوروبا لا تملك إلا العجز والفوضى لمواجهة سيل اللجوء، في انتظار تجاوبٍ تركي لا يبدو في الأفق. سوق التهريب، لنقل اللاجئين من تركيا إلى اليونان فأوروبا، تستخدمُ أسلحةَ الأوروبيين لمصلحتها، وضدهم في النهاية. كل خطوةٍ يقومون بها، لتنظيم التدفقات مع تعذر صدها، تصير داخل لوائح العرض والطلب وقائمة الأسعار.
معلقاً على ما حدث، يقول مسؤول أوروبي يعمل على الملف لـ «السفير» إن «كل إجراء نقوم به يستخدمونه لزيادة أرباحهم، إنهم يعرفون كل شيء، الآن لم يعد عملهم يدور حول التوصيل إلى اليونان، بل باتوا يأخذون أموالاً أكثر لإبعاد اللاجئين عن الجزر التي نحاول السيطرة على التدفقات إليها».
أحد أهم جوانب استراتيجية الأوروبيين كان إنشاء «نقاط ساخنة» في اليونان، تعمل كل منها بمثابة مركز تسجيل لحصر اللاجئين، تمهيداً لتوزيعهم على الدول الأوروبية. الهدف هو تقليل تدفقاتهم، عبر منعهم من اختيار وجهة لجوئهم. بعد ضغوط كبيرة، قبلت اليونان بإنشاء ستة مراكز، لكن حتى الآن لم يعمل منها سوى مركز واحد على جزيرة ليسبوس. يقول المسؤول الأوروبي إنه «منذ بات مركز التسجيل نشطاً، صارت الأعداد الواصلة إلى ليسبوس هي الأقل».
النقاط الخمس، على الجزر الأخرى، لا تزال في طور التجهيز للإطلاق. وفي حين تردّ دول أوروبية التأجيل إلى تقاعس أثينا وعدم وجود رغبة سياسية لديها، ترد الحكومة اليونانية بأنها تحاول جهدها إقامة بنية تحتية قادرة على تشغيل المراكز في جزر غير مؤهلة لذلك.
اليونان باتت الآن الحلقة الاضعف، توجه إليها أصابع الاتهام وتهددّ بالاقصاء عن منطقة التنقل الحر «شنغن». كان الحديث عن «ضعفها» الحاضر الأكبر خلال اجتماع وزراء الداخلية والعدل الاوروبيين في أمستردام. أبرز المنتقدين هي الدول التي تواجه أزمة سياسية داخلية تتخذ من عناوين اللجوء عنواناً. النمسا على رأس القائمة الآن، مع مشكلات كبيرة تواجهها الحكومة، بقياد «الحزب الاشتراكي الديموقراطي»، مع تصاعد شعبية اليمين المتطرف الذي بات منافساً شرساً على السلطة.
وزيرة الداخلية النمساوية جوانا ليتنر قالت إنه لا حاجة لإخراج اليونان من منطقة «شنغن»، لأنه سيكون حكم الأمر الواقع: «من الواضح أنه إذا لم نستطع ضمان أمن الحدود الخارجية، خصوصاً لليونان، فحدود شنغن الخارجية سوف تنتقل إلى أوروبا المركزية». الطريقة الوحيدة لتجنب ذلك برأيها هو قيام اليونان «بكل ما في وسعها وبأقصى سرعة» باتجاه «القبول بالمساعدة».
جزءٌ من تردد أثينا يعود لكونها ترى هذه الإلزامات نوعاً من الوصاية. فبموجبها، ستنتقل الرقابة على الحدود لتكون في يد الفرق الأوروبية، رغم كونها قضية تقع في صلب السيادة الوطنية. حكومتها تعترض بأنه من غير المنطقي تحميلها تبعات قضية بهذا الحجم، أخرجت كل شياطين الخلاف والانقسام، ولم تستطع الدول الاوروبية إيجاد تسوية فعّالة حولها.
مصادر أوروبية، حضرت الاجتماع، قالت لـ «السفير» إن الاعلانات التي خرجت من النمسا، وغيرها من الدول التي تشاركها الموقف، يجب «عدم أخذها على محمل الجد لأنها تتعلق بضغوط سياسية داخلية». قبل مدة، جرى حديث في ذات السياق، عن إقامة «شنغن» مصغرة، في حال الفشل في ضبط حدود «شنغن» الكبيرة. المصادر تقول إن «كل هذا الحديث لا أساس قانوني له، لا يمكن إخراج دولة من شنغن أبداً، لأنها يجب أن تخرج من الاتحاد الأوروبي أولاً».
من قاد هذا النقاش لأشهر، يعرف تماماً مدى استعصاء حلوله. وزير الامن الداخلي في لوكسمبورغ ايتيان شنايدر ترأست بلاده الاتحاد الأوروبي خلال نصف السنة الماضية، لتنقل الرئاسة الدورية الآن إلى هولندا. خلال حديث لـ «السفير»، قال إن «شنغن تمثل أحد أكبر إنجازات الاتحاد الأوروبي، لانها تغطي حرية الحركة لمواطنيه، لذا لا يجب حتى أن نفكّر، مجرد تفكير، بالتخلي عن شنغن»، قبل أن يضيف «لذلك يمكننا أن نتحدث حول كيف يمكننا تأمين حدودنا الخارجية، وما هي الدول غير القادرة على ذلك، وكيف يمكننا مساعدتها».
على كل حال، «الواضح أن أوروبا وصلت إلى منعطف»، بحسب المفوض الاوروبي للشؤون الداخلية ديمتريس أفرامابوليس. السنة الماضية عبر إليها ما يزيد على مليون لاجئ، وهذه السنة، خلال ثلاثة أسابيع في ظروف طقس غير مؤات، وصل إليها ما يزيد على ثلاثين ألف لاجئ.
النمسا وضعت حداً أقصى لعدد اللاجئين المقبولين: 37 ألف للعام الحالي، مع أن 90 ألف لاجئ وصلها العام الماضي. بحسابات بسيطة، الحد الأقصى للنمسا لا يحتاج سوى أربعة أيام ذروة، حينما كان يعبر المتوسط نحو عشرة آلاف لاجئ يومياً. المانيا لا تزال تمانع وضع حد للجوء، بعدما رددت مستشارتها أنجيلا ميركل لأشهر أن «حق اللجوء لا حدّ أقصى أمامه».
وسط كل هذا السجال، غاب أي أثر للود خلال الاجتماع التشاوري في أمستردام، بخلاف طقس المدينة المشمس مع دفء أبعد ذكريات بردها الشديد في هذه الفترة. الوزراء لم يجتمعوا على شيء تقريباً داخل ردهات قصر «المتحف البحري». هناك منعطف، فعلاً، أوصلت إليه الانقسامات. ما خرج منهم هو إعلان يقبل، ضمناً، وبشكل غير مسبوق، تعليقاً مرتقباً للعمل باتفاقية «شنغن» لمدة أقصاها عامين، أي ستة شهور يمكن أن تجدد أربع مرات.
بعد الفشل في إيجاد سياسة مشتركة، لجأت دول أوروبية عديدة إلى إجراءات منفردة، على رأسها فرض الرقابة الحدودية، معيدةً الحواجز إلى داخل منطقة التنقل الحر. كل مرة كانت هذه الرقابة تمدد على أساس نصوص تسمح بها، في ظل أوضاع طارئة. لكن هذه المدد استنفدت الآن.
الحل الجديد جاء من طينة سوابقه نفسها: دعوة المفوضية الاوروبية لايجاد طرق قانونية، لتمديد الرقابة بما يمنع القول إن «شنغن» في مأزق وجودي. المفوضية مطالبةٌ الآن باجراء تقييمها، على أساس المادة «26» من الاتفاقية، التي تتحدث عن مواضع عجز فوق السيطرة، بما يسمح بإصدار إعلان قانوني يطلق عملية الرقابة المطولة مع حلول منتصف أيار المقبل.
مصادر أوروبية قالت إنه لا يمكن إطلاق هذا المسار، من دون إصدار تقييم لا يمكنه تفادي القول إن «اليونان عاجزة عن ضبط حدودها»، موضحة أن المسألة تتعلق بدول «شنغن» لذلك «لا يمكن ربط تمديد الرقابة الحدودية بدولة خارج شنغن، رغم أن مفتاح الأزمة والحل يبقى في تركيا».
إعطاء مهلة عامين لتمديد الرقابة الحدودية هو اعتراف أيضاً بأن تدفقات اللجوء لن تتوقف في المدى القريب. المفوض الأوروبي للهجرة اعترف بالعجز الأوروبي. قال أفرامابوليس إن دول التكتل ستواجه «فترة طويلة من تدفقات اللاجئين»، مقرّاً بأن أي تقليل لها في المدى القصير سيكون مرهوناً فقط بإرادة أنقرة.
(السفير)