هل يقود «باروميتر» الحريات تركيا إلى انتخابات مبكرة؟ محمد نور الدين
لا يمكن الفصل في أي بلد بين أوضاع الحريات ونسبة ممارسة الديموقراطية. كلما ازدادت الحريات كانت الممارسة الديموقراطية أعلى، والعكس أيضاً صحيح.
في بلد مثل تركيا كانت الحريات على امتداد تاريخها الجمهوري مضغوطة ومقيّدة، ولم يكن الحديث ممكناً عن ديموقراطية معقولة، ولو بنسبة ما.
في عهد أتاتورك كانت مرحلة تأسيس الجمهورية، وإبعاد تركيا عن أخطار التقسيم ولعبة الأمم التي استمرّت حتى انتهاء الحرب العالمية الثانية. كانت فترة موسوليني في إيطاليا وهتلر في ألمانيا وفرانكو في أسبانيا. محاسبة أتاتورك على انعدام الديموقراطية والتعددية الحزبية كانت لتكون افتئاتاً على مَن لا يمكن أن يمارس نموذجاً لم يكن معروفاً في الأساس بشكل جدي حتى في أوروبا.
لكن الحرب العالمية الثانية غيّرت المفاهيم. المعسكر الغربي سمّى نفسه حراً وديموقراطياً في مواجهة التوتاليتارية الشيوعية. وتركيا اندرجت مباشرة بعد الحرب في المنظومة الغربية، لكن بخصوصية طبعت عقود الحرب الباردة. ديموقراطية عسكرية مباشرة، أو سلطة مدنية تحت الوصاية العسكرية. كانت مرحلة هندسة النظام حظراً واعتقالاً وإعداماً، ومن ثم انتخابات في دوامة متبادلة لم تنته.
التكتيك مع «حزب العدالة والتنمية» هو الذي اختلف فيما استمرت ذهنية الوصاية والاستئثار هي المهيمنة على العقل السياسي التركي. المعيار لم يعد مرتبطاً بالبعد العسكري من الوصاية، بل استبدلها قادة «العدالة والتنمية» وزعيمه تحديداً رجب طيب أردوغان بالوصاية المدنية المصطلح الذي بدأ البعض بإطلاقه عليه منذ العام 2009، وربما قبل ذلك بسنة.
منذ أكثر من ثلاث سنوات وبارومتر الحريات في تركيا يتراجع بشكل مخيف. ولم يكن ذلك ردة فعل على أحداث أو تجاوزات أو مؤامرات كما كان يطيب لـ «حزب العدالة والتنمية» أن يشيع، بل كان ذلك مرتبطاً بشكل مباشر برغبة أردوغان في تعديل النظام السياسي، من برلماني إلى رئاسي، ينقل الصلاحيات من الحكومة إلى الرئيس الذي سيصبح بإمكانه أن يترشّح كرئيس لحزب وأن يكون بالتالي حزبياً، وهو الذي يُعيّن الوزراء، ويقيلهم ويكون هو مركز القرار على غرار العديد من الأنظمة الرئاسية في العالم.
ولقد انتشر النقاش والسجال في تركيا حول أهلية النظام الرئاسي لبلد مثل تركيا، تنحصر فيه السلطات بيد حزب واحد، بل شخص واحد.
تركيا بلد متعدّد اتنياً ومذهبياً. هذا في الأساس ليس مشكلة، لكن في ظل التمييز ضد حقوق الأقليات التي هي ليست مجموعات صغيرة، بل إن الأكراد يقاربون الـ 12 مليون شخص، والعلويين يقاربون الـ 15- 18 مليوناً، في ظل حرمان هؤلاء جميعاً من حقوقهم، فإن نظاماً رئاسياً يعني في ظل الذهنية المذهبية والعرقية المتحكمة بـ «حزب العدالة والتنمية»، وفي ظل وجود غالبية إتنية تركية ومذهبية سنية، فإن هذا يعني تأبيد السيطرة الفئوية وإغلاق الباب أمام أي إمكانية لمشاركة المجموعات الاتنية والمذهبية الأخرى في السلطة، بما يُشعرها أنها جزء من الوطن. وهذا بالضبط ما يدفع الأكراد إلى التحرّك بقوة في هذه المرحلة لتحصيل مطالب لهم، ومنها الحكم الذاتي، والتعلّم باللغة الأم قبل أن تتحوّل تركيا إلى نظام رئاسي مطلق خارج اللعبة البرلمانية.
2- تركيا بلد ليس من استقلالية للسلطة القضائية فيه يمكن أن تشكل هيئة رقابة قوية، مثل الولايات المتحدة، تتصدّى للتجاوزات الدستورية والقانونية. كما أنه ليس من هيئات انتخابية، مثل مجلسي الشيوخ والنواب، يمكن أن تشكل قيوداً ومصافي على أي نزعة استبدادية لرئيس الجمهورية.
وبالتالي فإن الرغبة في إقامة نظام رئاسي في تركيا ليست سوى سعي لاستعادة الحكم السلطاني العثماني قبل العام 1909، بطريقة حديثة، فيما المضمون واحد، وهو حصر السلطة بيد شخص واحد ومذهب واحد وعرق واحد.
كلما تقدّمت الرغبة في تعزيز الحكم الفردي المطلق، كان تقييد الحريات يتّسع، وقد بلغ ذرواته في العام 2015. والجمعيات والمؤسسات والنقابات المعنية تقوم برصد وضع الحريات العامة، ولا سيما الصحافية والإعلامية، كثيرة في تركيا. وقد كان انتهاء العام 2015 وبداية العام 2016 مناسبة لتقديم جردة لمنسوب الحريات في تركيا.
وفي بعض المعطيات، إن موقع تركيا بالنسبة للحريات الصحافية في العالم، هو في المرتبة الـ 149، أي إن هناك 148 في العالم أفضل منها لجهة الحريات الصحافية.
وهناك ألف ومئتا صحافي عاطلون عن العمل، بين مطرود وممنوع منه، نتيجة للضغوط السياسية. وهناك 137 صحافياً تعرّضوا للعنف أثناء ممارستهم عملهم. ويحاكم 234 صحافياً بتهم مختلفة، من بينها، بل على رأسها دعم الإرهاب أو تحقير رئيس الجمهورية، فيما أُلقي في السجن 31 صحافياً أوردت النقابة أسماءهم والمؤسسة التي ينتمون إليها في دحض لاتهامات الحكومة لهم أنهم إرهابيون وليسوا صحافيين.
ويوجد أكثر من مئة صحافي، منهم ثمانية يعملون في مؤسسات إعلامية دولية، معتقلَين وقيد التحقيق.
وأغلقت السلطات التركية في العام الماضي 15 محطة تلفزيونية، وعملت على مصادرة ووضع اليد على صحيفتين يوميتين، ووضع الفيتو على مشاركة صحافيين محدّدين ووسائل إعلامية معينة في 56 مناسبة. كما عملت السلطة على منع نشر أكثر من 128 مادة إخبارية. والحادثة الأكثر لفتاً للنظر أن الحكومة عملت على حجب أكثر من 877 موقعاً على الانترنت خلال العام 2015. ويرى رئيس نقابة الصحافيين الأتراك أن يوم العاشر من كانون الثاني ليس يوم الصحافيين العاملين، بل يجب أن يكون يوم الصحافيين العاطلين عن العمل والممنوعين منه. وبالتالي فإنه لا يمكن الحديث عن عيد للصحافيين في ظل الضغوط السياسية وتقييد حرية العمل الصحافي.
ويعرب العديد من الجمعيات والنقابات المعنية بالحريات عن قلقه من مستقبل الحريات الصحافية في تركيا في العام 2016. وقالت إن العقبة الأكبر أمام الصحافيين هي الدعاوى المقامة ضدهم، والتهديد بسجنهم. ونتيجة للحملة الكبيرة على الوسائل الإعلامية المعارضة، ومصادرة البعض منها، فإن نسبة العاطلين عن العمل في القطاع الإعلامي في تركيا أعلى بثلاث مرات من نسبة العاطلين في القطاعات الأخرى. وذكرت الجمعية أن عدد الذين اضطروا لترك عملهم في العام 2015 حوالي 500 صحافي، فيما تعرّض 70 صحافياً للاعتداء.
ولعل السجال الذي ظهر في الأيام القليلة الماضية، ولا يزال مستمراً، نموذج بارز على ضيق النظرة إلى الرأي الآخر. فالبيان الذي وقعه أكثر من 1200 أكاديمي وكاتب تركي وأجنبي ضد سياسة الحكومة تجاه الأكراد، تحت عنوان «أكاديميون من أجل السلام»، لم يقابَل من جانب أردوغان سوى باتهام هؤلاء، ومن بينهم المفكر نعوم تشومسكي بأنهم «ظلاميون وجهلة وخونة». واستتبع ذلك ببدء التحقيق القضائي مع عدد منهم، واعتقال أكثر من عشرين منهم، والحبل على الجرار.
ولا تنفصل الضغوط على الحريات لتعزيز سيطرة الشخص الواحد عن خطة تصفية وتهميش القيادات الفاعلة في «حزب العدالة والتنمية». وإضافة إلى استبعاد الرئيس التركي السابق عبد الله غول وأحد مؤسسي الحزب من العودة إلى الحزب بعد انتهاء ولايته الرئيسية، فإن الحزب قام مؤخراً بفصل أحد مؤسسيه من عضويته، وهو وزير أول خارجية لسلطة «العدالة والتنمية» ياشار ياقيش. وقد عُرف عن ياقيش اعتراضه الشديد على سياسات الحزب تجاه سوريا ومصر و «الربيع العربي» عموماً. بل بادر مؤخراً للكتابة المنتظمة في صحيفة «زمان»، التابعة لفتح الله غولين العدو الأول لأردوغان في تركيا والمطلوب للمحاكمة بتهم الإرهاب. كذلك فصل، أو انفصل عن الحزب في مراحل سابقة آخرون من مؤسسيه، بينهم وزير المالية عبد اللطيف شينير ووزير الداخلية السابق إدريس شاهين والسكرتير العام للحزب ارطغرل يالتشين باير.
كما تمّ تهميش العديد من المؤسسين، وآخرهم بولنت أرينتش وحسين تشليك، وحتى علي باباجان الذي لم يعط أي حقيبة وزارية في الحكومة الحالية، رغم أنه ترشح على مضض للانتخابات النيابية بعد ضغوط رئيس الحكومة أحمد داود أوغلو الذي كان يريد تعزيز يده في الحزب، لكن اعتراض أردوغان حال دون توزيره، وهو ما اعتبر إهانة لباباجان وتاريخه المديد في الحزب والحكومات والبرلمان.
بين تشديد الضغوط على الحريات وخنقها وتضييق مجال المنافسة، حتى داخل «حزب العدالة والتنمية»، فإن الهدف النهائي هو في تحقيق هدف النظام الرئاسي. والمفاجأة هنا انه رغم أن انتخابات الأول من تشرين الثاني الماضي قد أعادت احتفاظ الحزب بالسلطة منفرداً فإن النتائج لم تعن شيئا بالنسبة لطموحات أردوغان. إذ إنه لم يتمكن من الحصول لا على ثلثي المقاعد (367مقعدا)، ولا على العدد الضروري من النواب (330 نائبا. الحزب نال 317 نائبا)، للموافقة على إحالة أي تعديل دستوري إلى استفتاء شعبي. والنقاشات داخل لجنة إعداد الدستور في طريق مسدود. المعارضة مستعدة للتعاون في كل المواضيع، ولكنها لا تقبل تعديل النظام من برلماني إلى رئاسي. لذا فإن توقعات أردوغان من اللجنة تساوي صفرا.
وتنقل صحيفة «ميللييت» إن هناك تفكيراً جدياً لدى أردوغان بالدعوة إلى انتخابات نيابية مبكرة جديدة خلال العام 2016، إما في حزيران أو في الخريف، لتعديل موازين القوى، بحيث يحصل الحزب على 330 نائباً على الأقل، مستفيدا من تضعضع المعارضة، ولا سيما «حزب الحركة القومية» والتضييق على «حزب الشعوب الديموقراطي» الكردي، بحيث يكون الهدف وجود حزبين فقط في البرلمان، هما «العدالة والتنمية» و»الشعب الجمهوري»، بما يضمن لـ»حزب العدالة والتنمية» أكثر من 330 نائباً، لتكون الطريق مفتوحة أمام تعديل من دون عقبات، إما في البرلمان أو في استفتاء شعبي، على تغيير النظام.
(السفير)