“خطأ إملائي”.. حكايات مشابهة.. مرّة ومريرة – معين الطاهر
في خبر نشرته “عربي21” عن صحيفة “الغارديان” البريطانية، أن خطأ إملائيا ارتكبه تلميذ مسلم يبلغ من العمر 10 أعوام قد أدى إلى استدعاء الشرطة، والتحقيق معه ومع عائلته بتهمة التورط في الإرهاب، بعدما أبلغت المدرسة الشرطة بناء على قانون مكافحة الإرهاب الصادر سنة 2015، والذي يطلب من المدرسين إبلاغ السلطات عن أي تصرف يشتبه بكونه إرهابيا.
كل ما فعله الطفل أنه ارتكب خطأ إملائيا، فبدلا من أن يقول أنه يعيش في بيوت متلاصقة (تيراسد هاوس)، كتب أنه يعيش في بيت إرهابي (تيرورست هاوس). ولأنه من عائلة مسلمة، وبدلا من أن تقوم المدرسة بتصحيح الخطأ الإملائي، فقد اعتقدت المدرسة أنها قد اكتشفت لتوها خلية إرهابية نائمة، فقامت باستدعاء الشرطة التي أخضعت الطفل للتحقيق، وقامت بمداهمة منزله، والبحث في جهاز الحاسوب الخاص بذويه عن أي نشاطات إرهابية محتملة.
للشرطة البريطانية سوابقها في هذا المجال، وتذكرني هذه الواقعة بقصة حدثت مع الشهيد عاطف بدوان في مطار هيثرو اللندني؛ إذ كان الشهيد عاطف قد أصيب إصابة بليغة في يده، وأوصى الأطباء بضرورة معالجته في الخارج، فتم إصدار جواز سفر جزائري له، ليتمكن من دخول بريطانيا دون الحاجة إلى تأشيرة.
في المطار، عندما سأله موظف الجوازات عن سبب قدومه إلى بريطانيا، أفاد بأنه (ترورست) بدلا من (تورست)، أي إرهابي بدلا من سائح، فتم إيقافه، وعند تفتيشه عثر على التقارير الطبية وصور الأشعة، وهي باسم مغاير للاسم الموجود على جواز السفر، تم اعتقال الأخوة الذين كانوا في استقباله، وأخضع الجميع لتحقيق استمر أكثر من 10 ساعات، ولم يفرج عنهم إلا بعد حضور الشهيد سعيد حمامي ممثل منظمة التحرير برفقة السفير الجزائري في لندن.
لا تسلم الجرة في كل مرة. يحدثني أصدقائي العرب من سوريا ومن العراق ومن غيرهما، كيف تعرض أصدقاؤهم -وبعضهم اعتقلوا- لقضايا مشابهة، لأن أطفالهم قد تفوهوا في المدرسة ببعض العبارات التي سمعوها في منازلهم، وتتضمن نقدا للنظام أو مسا بمسؤوليه، وكيف كانوا حريصين كل الحرص على ألّا يتكلموا أمام أطفالهم بأي عبارة قد يرددها أطفالهم أمام رفاقهم أو مدرسيهم، فيجرهم إلى حبل المشنقة أو الإعدام رميا بالرصاص لأفراد عائلته.
كم من الكلام قد أودى بصاحبه، حتى قبل أن تصدر القوانين الحديثة لمكافحة الإرهاب، التي تحاول أن تتحسب لنمط التفكير القادم، وتدخل في باب النيات المستقبلية، حتى غدت هذه القوانين أقرب للمحاسبة على النيات من المحاسبة على الأفعال.
ثمة حوادث كثيرة فيما يروي من تاريخنا القديم والمعاصر عن تلك الأخطاء غير المقصودة، التي أودت بأصحابها. من المرويات هذه قصة شهيرة عن صاحب محل لبيع الأحذية أسماه (أحذية الشعب)، وحدث أن قرر رئيس ما أن يزور المدينة، وطلبت السلطات المحلية من أصحاب المحلات تعليق يافطات ترحب بفخامته، فما كان من صاحبنا أسوة بزملائه إلا أن وضع يافطة أمام محله، وكتب عليها أحذية الشعب ترحب بفخامة الرئيس.
أيضا ثمة كلمات أودت بحياة أصحابها، فقديما دفع شاعرنا أبو الطيب المتنبي ثمن بيت شعر قاله، حين طارده بعض من هجاهم وأراد الهرب والإفلات منهم، فأوقفه مرافقه قائلا: أولست القائل:
الخَيْل واللّيْلُ والبَيْداءُ تَعْرفُني والسّيْفُ والرّمْحُ والقرْطَاسُ والقَلَمُ
فقال المتنبي: قتلتني يا غلام، وعاد أدراجه ليُقتل ويدفع ثمن كلام قاله. ولعل هذا ما حدث مع الإمام أحمد بن حنبل والحلاج وابن رشد وغيرهم من العلماء والمفكرين، حين لم يحتمل السلطان وقع كلماتهم وسطوة أفكارهم.
لكن الأخطر من ذلك حين تؤدي أخطاء من هذا القبيل إلى ضرر فادح للأمة كلها، وحسبنا أن نذكر كيف أن خطأ في رسم الخرائط في اتفاقيات الهدنة 1949 أدى إلى ضياع قرى عربية بأكملها دون قتال، بل أدى إلى تقسيم بعضها إلى قسمين مثل قرية باقة. ولم ينتبه الضباط العرب إلى هذا الخطأ الجسيم الذي ارتكبوه إلا بعد ضياع البلاد وتشريد العباد.
أما شر البلية الذي لا يضحك، فهو عندما تعترف بعدوك، وتمنحه من الحقوق ما ليس له، مقابل أن يوافق على الجلوس معك ومفاوضتك على ما تملكه أنت، ولعل هذا هو جوهر اتفاق أوسلو وما جاء به.
هنا لا يوجد خطأ إملائي أو ضعف في الترجمة أو الصياغة اللغوية بقدر ما توجد غشاوة في القلوب وعمى في البصر والبصيرة