الأوروبيون ينعمون بـ«الاتفاق النووي»: الصراع الإيراني ـ السعودي يهدّد ثلاث قارات وسيم ابراهيم
يقرّ الأوروبيون، عن طيب خاطر، بأنهم يمثلون الآن بوابة عبور إيران إلى شراكة دولية جديدة. دورهم كان فاعلاً في إنجاز الاتفاق النووي، ما عرّضهم سابقاً لمشكلات سياسية مع السعودية. وضعُهم يختلف مقارنةً بالولايات المتحدة، التي تبقى مُكّبلة بحساسيات مزمنة في علاقتها مع طهران. لكن في حين أن شهية الأوروبيين مفتوحة لجني المكاسب السياسية والاقتصادية، يبدو أن ليس لديهم سوى التحذير من ارتفاع حصيلة الدم والخراب جراء احتداد المنافسة بين القطبَين الإقليميين.. مع الأمل أن تنتهي بـ «هيكل أمني» يحتوي الصراع الإقليمي.
الحصة الكبيرة للدور الأوروبي لم تظهر فقط في وجود بريطانيا وفرنسا وألمانيا، لتُكَوّن نصف مجموعة الستة الكبار في المفاوضات النووية. الخارجية الأوروبية رافقت المفاوضات بوصفها منسقةً للمجموعة الدولية، لكن أيضاً بوصفها تمثّل مصالح دول الاتحاد الأوروبي مجتمعة على طاولة التفاوض.
لم يكن ذلك إجراءً صورياً. بعد إتمام الاتفاق، كان قسم الترجمة، المياوم في مؤسسات بروكسل، أمام تحدٍّ لم يكن ينتظره. عاد الديبلوماسيون الأوروبيون من فيينا، ثم طلبوا ترجمة كامل الاتفاق النووي إلى 20 لغة، هي لغات دول الاتحاد الأوروبي، إضافة للغات الثلاث الأخرى التي تُرجم إليها مسبقاً.
أحد المترجمين قال إنهم قضوا «أياماً ولياليَ كانت تبدو بلا نهاية، كنا نتعارك مع مصطلحات نووية لم نقابلها يوماً». لكن المهمة تمّت بالعجالة المطلوبة، ليتبعها إرسال نصوص الاتفاق إلى البرلمانات الأوروبية للمصادقة عليها. الإجراء السياسي مَهَّد لرفع العقوبات الأوروبية عن طهران، مع إعلان بدء تطبيق الاتفاق النووي قبل أيام.
كان تطبيق الاتفاق النووي متعلقاً بالاتحاد الأوروبي بشكل رئيسي. معظم العقوبات المهمة تمّ رفعها عن إيران، في حين أن لواشنطن نظام عقوبات صارماً وثقيلاً لا يزال يعمل. روسيا والصين لم تكونا يوماً في موقع المعاقب الجدّي لدولة كانت لهما معها علاقات ممتازة. مسؤول أوروبي رفيع المستوى، حضر لسنوات التفاوض النووي حتى بلوغ نهايته، قال لـ «السفير» معلقاً على تطبيق الاتفاق: «نحن لا نقول ذلك مباشرة، لكننا بالطبع أكثر مرونة من الولايات المتحدة بالنسبة للعلاقة مع إيران ولقضية العقوبات».
حصيلة المكاسب الاقتصادية، لإيران والأوروبيين، لا تزال بعيدة عن الحصر الآن. الزيارات الكثيفة للوفود التجارية الأوروبية لا تزال مستمرّة، وقائمة العقود المتوقعة مزدحمة، خصوصاً في قطاع الطاقة.
العقوبات الأوروبية كانت أخذت منحىً مؤلماً فقط في العام 2012، حين تمّ فرض حظر استيراد النفط والغاز من إيران، تجارة الشحن والنقل والتأمين، ومعه حظر الاستثمار لشركات الطاقة الأوروبية. قبل ذلك، في 2011، كان الأوروبيون أكبر شريك تجاري لطهران، مع حجم تجارة ثنائية وصل 28 مليار يورو، لكنه تراجع إلى أقل من 12 مليار في 2014 مع التأثير الكبير للعقوبات.
الآن تقول إيران إنها في حاجة إلى نحو 50 مليار دولار، من الاستثمارات السنوية. الواضح أن استثمارات قطاع الطاقة سيكون لها حصة معتبرة. قبل أيام، أعلنت مدريد أنها تخطط مع طهران لإقامة مصفاة نفط، قرب جبل طارق، كما طمأن مسؤولها أن الشركات الاسبانية تتمتع بوضع جيد لدخول السوق الإيرانية، رغم المنافسة الكبيرة مع باقي الشركات الأوروبية.
هناك مصاعب تتعلق بنشاط المصارف، لخوف الأوروبيين من خرق عقوبات واشنطن، والغرامات الكبيرة التي دفعتها بعض مصارفهم سابقاً، لكن يبدو أن الاعتماد سيكون على العديد من المصارف الألمانية المحصّنة بضعف ارتباط نشاطاتها بواشنطن. وجود نشاط مصرفي فعال سيؤمن خطوط التمويل لقطاعات أوروبية عديدة تأمل بدفعة استثمارية كبيرة، من أسواق السيارات وصولاً إلى مشاريع البنية التحتية.
الأجواء إيجابية في المجمل في الدول الأوروبية، إذ لا يوجد سوى كيل المديح لاتفاق وصفوه بـ «التاريخي». لكن الوضع يختلف حينما يتعلق الأمر بالحديث عن العواقب السياسية للمنطقة، حيث باتت تعيش فعلياً على إيقاع الصراع بين الرياض وطهران.
يقول المسؤول الأوروبي، الذي انخرط في المفاوضات النووية، إن كونهم «بوابة» لدخول إيران الساحة الدولية «لا يعني أننا نتحمّل مسؤولية التأزم مع السعودية، أو إذا كانت له تبعات في المنطقة». الاتفاق النووي، وفق كلماته، سيكون مصيره منوطاً بتطبيق بنوده فقط، وليس بأي تداعيات تنجم عن صراع القطبين الإقليميين: «إذا كان السؤال هل سنتراجع عن الاتفاق إذا تأزم الوضع أكثر بين السعودية وطهران، فالجواب الواضح هو لا، طالما بنود الاتفاق النووي يتم احترامها، فإننا ملتزمون به».
هذا الجدل يخدم فرضية من يقولون إن الغرب يريد شراكة جديدة مع طهران، سواء كانت مقدمة أم خاتمة للاتفاق النووي. المسؤول الأوروبي يقول «نحن غير مسؤولين» عن تبعات الاتفاق، إذا انعكست سلباً على المنطقة. حصيلة التبعات لم تنضج بعد، لا يزال الحكم عليها مبكراً جداً، لكن الانعكاس السلبي لا جدل كبير حوله.
ليس متوقعاً أن يصحو الربيع وتزهر الورود في ميادين الصراع بين الدولتين، خصوصاً مع قطع العلاقات الديبلوماسية بينهما. التحليل الأولي، المنطقي، يقود للاستنتاج أن ذلك سيعني تسعيراً أكبر لحروب الوكالة، سواء مدفوعة بالتمويل الجديد من طهران، بعد الإفراج عن الأرصدة ورفع الحصار الاقتصادي، أو المسارعة السعودية لمواجهة توسيع الإيرانيين نفوذهم وتكريسه.
ما يؤكده من أنجزوا الاتفاق أنهم لم يشترطوا على إيران شيئاً، بالنسبة لطبيعة دورها ونفوذها الإقليمي. يعرب المسؤول الاوروبي عن «الأمل بأن يفتح ذلك لمرحلة إيجابية مع دور أفضل لطهران في صراعات المنطقة»، مشيراً تحديداً إلى الحرص على حماية مسار الحل السوري: «على الأقل، تلقّينا تطمينات، من كلا الجانبين، أن التوتر بينهما سيكون معزولاً عن مفاوضات الأزمة السورية. الأهم فعلاً هو أن نحافظ على مجموعة العمل الدولية» التي جمعت طهران والرياض حول طاولة مؤتمر فيينا.
العديد من المسؤولين الأوروبيين حرصوا على الطمأنة بأن التأزم الأخير هو ردود فعل مباشرة، لكن الحصيلة ستكون إيجابية بالمجمل. وزير الخارجية البلجيكي ديديه رندرز كان بين الوزراء الذين سارعوا لزيارة طهران، بعد الاتفاق معها، ويرى أن تشكيل المجموعة الدولية حول سوريا كان نتيجة مباشرة له. قال لـ«السفير» إن «الفرق الرئيسي أن الجميع على الطاولة»، قبل أن يضيف «انا متأكد من أن الاتفاق النووي مع إيران هو تغيّر حقيقي، فمن الممكن الآن الحصول على إيران حول الطاولة، وعلينا الذهاب أبعد في جنيف».
التأزم بين طهران والرياض كان محور نقاش ساخن، جرى في جلسة عامة للبرلمان الأوروبي في ستراسبورغ يوم الثلاثاء الماضي. التحذيرات كانت من العيار الثقيل، في حال تصاعد التأزم أو انفجر في النهاية.
متحدثةً للبرلمانيين الأوروبيين حول ذلك، قالت وزيرة خارجية الاتحاد فيديريكا موغيريني محصية أبرز سلبيات نزاع القطبين: «يمكنه إغلاق المسار الصعب للسلام في سوريا، وأيضاً اليمن، ويمكنه زعزعة استقرار العراق ولبنان، البلدين الأكثر تعرضاً في الاقليم للتوترات الطائفية»، قبل أن تضيف كمن يبعد الصورة ليرى ما تعنيه، «هذا يمكنه زعزعة استقرار العالم الإسلامي برمته من آسيا إلى افريقيا، في ثلاث قارات إن لم يكن في أربع».
مع ذلك، هناك «أسباب للأمل» أنتجها الاتفاق النووي، بحسب موغيريني. اعتبرت أن الاختمار الأمثل لتبعاته سيكون الوصول إلى «البناء الأمني التعاوني، الذي هو الطريقة الجيدة للمضي قدماً، وللسلام والأمن»، قبل أن تشير إلى التعهدات التي أعلنتها طهران، لكنها عقبت عليها بالقول: «لسنا بريئين، فهذا لن يحصل بين ليلة وضحاها، رغبة إيران للتعاون في قضايا إقليمية يجب أن تُختبر، لكن إعلانها بذاته هو خطوة للأمام مقارنة بالماضي».
مجموعة الاشتراكيين الأوروبيين تتهم أحياناً بالانحياز إلى إيران، نظراً لتركيزها على انتقاد الرياض. نائب رئيسها فيكتور بوشينارو اعتبر أن الصراع بين الرياض وطهران «سيرجح استمرار عدم الاستقرار في عموم الإقليم، وحتى أن يزداد»، قبل أن يعتبر أن «هذه الاستراتيجية السياسية لها صدى عميق في الإقليم، ولها تداعيات دراماتيكية. الاتحاد الأوروبي عليه ضمان ألا تندلع الحرب المباشرة».
هناك اعتقاد متزايد بقدرة الأوروبيين على لعب هذا الدور، لجهة التوسط مع امتلاك أدوات نفوذ مختلفة، أبرزها كونهم التكتل الاقتصادي الأكبر في العالم. بعض النواب الأوروبيين لفتوا إلى ضرورة الإفادة من «ابتعاد السعودية عن الولايات المتحدة باتجاه أوروبا وقيام إيران بخطوة انتفاعية مشابهة». طهران نفسها مالت للحديث عن تفضيلها الانخراط مع الأوروبيين.
موغيريني زكّت تلك الافتراضات بالقول إنه «لدينا قنوات مع الطرفين، كما أن تطبيق الاتفاق النووي فتح أيضاً إمكانيات جديدة»، لافتةً في الوقت ذاته إلى موقع أفضل في العلاقة مع الرياض لأن «تدهور أسعار النفط يضعنا في وضع مختلف جداً، وأيضاً بخصوص علاقاتنا مع الخليج».
النواب الأوروبيون يعكسون طيف التمثيل السياسي الواسع في مجمل الاتحاد الأوروبي، خصوصاً موقف أحزابه الرئيسية. صحيح أن التعليقات السلبية كانت موجّهة لكل من إيران والسعودية، بالنسبة لانتهاكات حقوق الإنسان، لكن كثافة الانتقادات تركّزت على سياسة الرياض ومسؤولية الحكومات الأوروبية تجاه ذلك.
آلين سميث، النائب البريطاني من «الحزب القومي الاسكتلندي»، قال إنه «منذ العام 2010 باعت بلادي، بريطانيا، أسلحة للسعودية بقيمة 5.7 مليار جنيه استرليني، وقد استخدموها في اليمن مع عواقب كارثية. هناك انتهاك حقيقي تمثله مبيعات الأسلحة للسعودية».
بدوره، قال ميغيل روبان كريسبو، من حزب «بوديموس» اليساري الإسباني الصاعد، إنه «لفترة طويلة، أبقى الاتحاد الأوروبي من السعودية الحليف المفضل في الإقليم بفضل عقود البنية التحتية والاسلحة مع شركات اسبانية وفرنسية وبريطانية والمانية»، قبل أن يضيف «عالجوا قضايا حقوق الانسان حتى لو كلفكم ذلك بعض العقود التجارية مع إيران والسعودية».
لكن البعض اعتبر أن كفتي انتقاد طهران والرياض غير متساويتين. النائبة الاشتراكية البارزة آنا غوميز قالت إنه «على الاتحاد الاوروبي انتقاد إيران، حينما يلزم، وتحديداً بالنسبة لحقوق الانسان»، قبل أن تستدرك «لكن علينا عدم الإخفاق في العمل مع إيران، التي لديها هيكلية دولة فعالة. وإذا أردنا حلاً سورياً ومواجهة داعش وآخرين، تم تمويلهم عبر السعودية وقطر وتركيا، فلا يمكن للاتحاد الأوروبي تغطية هذه الدول».
(السفير)