بقلم ناصر قنديل

جنيف السوري: انقلاب الصورة عندما يصير لافروف مقرّراً وكيري وسيطاً!

nasser

ناصر قنديل

– مسار جنيف الخاص بسورية يثير الالتباس لدى بعض المتابعين الذين تثير نغمة الاسم في ذاكرتهم مشاهد الحوارات والمفاوضات التي عُقدت تحت مسمّى جنيف السوري، فلا ينتبه كثيرون منهم للتغيير الجذري الذي يحكم المسار الجديد، وتبقى الصور القديمة تحكم التطورات الحديثة لصعوبة التحرّر من وطأة قوة العادة.

– بدأ جنيف السوري مشروعاً أميركياً عنوانه، محاولة مقايضة قرار الحرب على سورية بتعديل سلمي لبنية الدولة السورية، يقوم على استقطاب جزء من القيادة السياسية والعسكرية، بإغراء الشراكة في الحكم، وتشجيع روسي إيراني، مقابل ضمانات بالحفاظ على بعض المصالح الروسية والإيرانية في سورية الجديدة، وعنوان التغيير رحيل الرئيس السوري الذي يشكل رمز استقلال سورية وخيارها المقاوم، هكذا كانت الخطوة الأميركية الأولى مع موسكو، ولأنّ موسكو رفضت التخلي عن الحليف الأبرز في الشرق الأوسط، خرج بيان جنيف الأول غامضاً مليئاً بالتناقضات، فاستعصى تضمينه دعوة لرحيل الرئيس السوري، واستعصى تضمينه دعوة لحكومة تشارك فيها المعارضة في ظلّ رئاسته، فتحدّث البيان عن هيئة يتفق عليها السوريون لتمارس الحكم انتقالياً إلى حين إجراء تعديلات دستورية تنتهي بانتخابات.

– تعقّد مسار جنيف المرسوم أميركياً لصعوبة الحسم لأيّ من الخيارين، فقد حقق الهجوم العسكري المتعدّد الأطراف على سورية مكاسب هامة في الجغرافيا، لكن قلاع الدولة بقيت صامدة بعدما رفدها الحلفاء وفي مقدّمهم حزب الله وقوى المقاومة بحضور عسكري مباشر استدعى من الأميركي القول لا مفاوضات قبل تعديل موازين القوى، واستدعى من حلفاء واشنطن في لبنان القول لا حكومة مع حزب الله حتى يخرج من سورية وأنشأ هذا التوازن الجديد استعصاء في مسار جنيف، حتى بلغ الأميركي العودة إلى قرار التدخل العسكري فحشد الأساطيل والتحالفات، ولمّا جوبه بجدية قرار سورية والحلفاء من المقاومة إلى طهران وموسكو بالذهاب في المواجهة إلى النهاية تراجع وارتضى الحلّ السياسي للسلاح الكيميائي السوري.

– كان مسار جنيف الأصلي أميركياً يريد مقايضة موسكو وطهران بأمن ملفات كلّ منهما، من الملف النووي الإيراني بالنسبة لطهران إلى الحرب في أوكرانيا بالنسبة لموسكو وحرب أسعار النفط والغاز بالنسبة لكلتيهما، مقابل الحصول على سورية ولكن مع ديكور خارجي لا يذلّ حليفي سورية الروسي والإيراني، ويمهّد لتوازنات في النظام العالمي والإقليمي بمكانة محدّدة أميركياً لكلّ من روسيا وإيران، ولذلك جاء التراجع الأميركي أكبر من مجرد تراجع عن ضربة، ليصير تراجعاً عن خيار، فتسارعت المفاوضات الروسية الأميركية والمفاوضات الأميركية الإيرانية، وولد تفاهما أوكرانيا والملف النووي، بشروط تعكس ميزان قوى جديداً، يعكس القبول الأميركي بخيار الشراكة والاعتراف بالعجز عن مواصلة القطبية الأحادية على الساحتين الدولية والإقليمية، والاعتراف الموازي بمحدودية قدرة الحلفاء على فعل المتوقع لتغيير معادلات القوة في سورية.

– مع إنجاز التفاهم على الملف النووي الإيراني وتقدّم مسار التسوية في أوكرانيا، حدثت النقلة النوعية المتمثلة بالتموضع الروسي العسكري في جبهات الحرب السورية، وبدأ الاختلال المعاكس في التوازنات العسكرية، وصارت انتصارات الجيش السوري اليومية هي ملخص وقائع الميدان، وكانت نتيجة إسقاط تركيا الطائرة الروسية إخراج تركيا من المعادلة السورية، ومع تعزز وضع إيران الإقليمي بعد التفاهم النووي، مقابل تراجع وضعية حلفاء واشنطن التركي والسعودي و«الإسرائيلي» وعجزهم عن تغيير المسارات، وتعديل قواعد الاشتباك وموازين الردع والمواجهة، سارت واشنطن نحو القبول بمفهوم جديد لجنيف ترجمه القرار الدولي 2254 وواصلت تطبيق مندرجات التفاهم النووي مع إيران، بصورة معاكسة لرغبات حلفائها، وصار مضمون جنيف محسوماً، شراكة كاملة لإيران في العملية السياسية السورية مقابل أدوار حلفاء واشنطن، وولد مسار فيينا لترجمة هذا التحوّل، وصار التسليم بكون الرئيس السوري بشار الأسد والجيش السوري عنوان هذه العملية السياسية والحرب على الإرهاب معاً، وما عاد بيد السعودية التي بقيت وحيدة على خط الإنكار للمتغيّرات، وفشلها في حرب اليمن، وعجزها عن قيادة قاطرة عـزل إيـران ديبلوماسياً، إلا الرهان على تفخيخ جنيف الجديد.

– المواجهة الدائرة حول جنيف بصيغته الجديدة، تتبادل فيها الحكومة السورية وتشكيلات المعارضة الأدوار، بسبب تبادل المواقع، والشعور بالقوة والثقة، فالحكومة اليوم تتعامل مع نصّ القرار الأممي بوضوحه، ولا تشعر أنها بحاجة للاحتماء وراء تعابير هامشية وضعت في جنيف الأصلي لإرضائها، بينما المعارضات السورية تفتش في القرار الأممي عن جملة هنا وجملة هناك لتحتمي وراءها، ومثلما كان هدف الحكومة السورية تعطيل الوصول إلى نقطة البحث بهيئة حكم انتقالي، وهي تعلـم أنها جوهر جنيف يومها، تسعى المعارضة اليوم إلى تفادي الوصول لبحث تشكيل حكومة في ظلّ الرئيس الأسد، مع فارق أنّ رهان الحكومة السورية على تغيّر الوقائع بقوة الزمن، والثبات والصمود أثبت صحته وجدواه، بينما رهان المعارضة يتمّ على أحصنة عرجاء وبعدما قال الزمن كلمته الفاصلـة، فـلا السعوديـة ولا فـرنسـا تملكـان مفاتيـح التغييـر.

– يكفي النظر إلى معادلة جنيف المتغيّرة من حيث الشكل، عندما كان وزير الخارجية الأميركي جون كيري يقرّر ووزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف يقوم بالوساطة مع الحكومة السورية لتسهيل القبول بما يمكن منعاً للتصادم، بينما يحدث اليوم العكس تماماً، فيقول لافروف «إذا لم يأت جماعة الرياض إلى المفاوضات فسنختار وفداً بديلاً عنهم»، فيركض كيري للوساطة ومحاولة جلب الممكن من الرياض حكاماً ومعارضين.

(البناء)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى