تداعيات سقوط الحظر: تسارع صعود إيران… ومحور المقاومة العميد د. أمين محمد حطيط
يوم انطلقت الثورة الإسلامية وأقامت دولتها في إيران تحت عنوان «لا شرقية ولا غربية»، أيّ دولة مستقلة تتمسك بسيادتها واستقلالها، طرح الكثيرون من دهاقنة السياسة والفكر الاستراتيجي سؤالاً هاماً: «أيّ دولة يمكن أن تقوم مستقلة فعلياً في عالم منقسم بين معسكرَيْن يتنافسان على اقتسام النفوذ ولا يسمحان – وهما المنتصران في الحرب الكونية الثانية التي أفرزت نظاماً عالمياً يحمي مصالح مَن انتصر -، لا يسمحان لأحد بالاستقلال الفعلي، وبالتالي لا يتيحان لأحد امتلاك قوة تحمي هذا الاستقلال إذا فكّر فيه. ولذلك سارعت تلك القوى إلى «تأديب إيران» ومعاقبتها بحرب وحصار وملاحقة دولية عرقلت امتلاكها خصائص الدولة الفاعلة في المنظومة الدولية، وحالت دون ممارستها ما للدول من وظائف في المجالات الدولية المتعدّدة العناوين.
هدف الحصار الدولي هو حملُ إيران على العودة عن استقلالها والرجوع إلى فلك المعسكر الغربي بقيادة أميركية، وقد مارست أميركا في سبيل ذلك ومباشرة بعد انتهاء حرب الخليج الأولى حرب صدام على إيران – وتفكك المعسكر الشيوعي، سياسة الاحتواء المزدوج احتواء العراق وإيران معاً . وقد تمكنت أميركا من النجاح في مواجهة العراق، حيث ختمت سياسة الاحتواء تجاهه باحتلاله عسكرياً وتفكيك دولته والإجهاز على مؤسساتها كلها، ثم نشر بذور التفتيت والاحتراب الداخلي فيه بما يمنعه من بناء الدولة الموحّدة القوية التي تملك قرارها بحرية وسيادة. وكان هذا أيضاً هو المصير الذي ينتظر إيران التي حوصرت باحتلال أفغانستان شرقاً وباحتلال العراق غرباً وبمحاصرة وملاحقة للدولة كلها.
لكن سياسة الاحتواء فشلت في تركيع إيران، رغم الحصار الشديد والحظر القاسي المتعدّد العناوين اللذين مارسهما الغرب ضدّها بقيادة أميركية وتبعية أوروبية. حظر اتخذ من سلوك إيران السيادي ذرائع للتفنّن في انتقاء جزئياته، حظر تصاعد منذ أكثر من عقد من الزمن حتى شمل تقريباً معظم مرافق الثروة والمال والاقتصاد والتسليح التي تربط إيران بالخارج، حظر تفلّت من قواعد القانون الدولي والإنساني وأدّى إلى معاناة لا يُستهان بها عاشها الشعب الإيراني في أكثر من وجه من وجوه الحياة والسلوك المدني والمعيشي والاقتصادي.
أمام هذا العدوان الذي مورس ضدّ إيران كحرب تعتمد استراتيجية القوة الناعمة الحرب الناعمة على حدّ وصف مرشد الثورة السيد خامنئي ، أمام هذا كان على إيران أن تختار بين التمسك بمبادئ ثورتها الاستقلالية والسيادية مع ألم الحظر ومعاناته، أو التنازل عن تلك المبادئ لتلافي ذاك الألم المادي واستبداله بألم معنوي هو ألم الاستتباع والسقوط في شباك الهيمنة الأميركية ومصادرة الثروة والحرية.
ولم تتردّد إيران في اختيار الاستقلال والسيادة مع ألم الحظر ومعاناة الحصار، واتجهت إلى اعتماد «الاقتصاد المقاوم» الذي يقوم على أركان أربعة، هي: الاتكال على الذات في تحصيل الحاجات سعياً إلى الاكتفاء الذاتي ما أمكن، والتطوير الصناعي والسير في دروب التحصيل والبحث العلمي للالتحاق بمقتضيات العصر، ثم سياسة ترشيد الإنفاق والاستهلاك دون المسّ بمجالات التطوير والتعليم والتصنيع والعمران الضروري، وأخيراً اعتماد مبادئ الإنفاق الإنتاجي والتخفيف ما أمكن من الاقتصاد الريعي والاستهلاكي.
ولتحصين «الاقتصاد المقاوم» هذا كان اندفاع إيراني استراتيجي لحشد القوة العسكرية المتعدّدة المصادر للدفاع عن الدولة، مواكباً مع إقامة شبكه علاقات دولية في الحدّ المتاح للتخفيف ما أمكن من المعاناة وإرساء أسس فضاء استراتيجي حيوي للدولة يمنحها مناعة إضافية في الدفاع عن الذات والمبادئ، وكان من ثمار هذه الاستراتيجية ظهور محور المقاومة الذي سيسجل التاريخ يوماً أنه غيّر مسار الحركة الدولية ومنع إقامة نظام عالمي أحادي القطبية.
لقد تمكّنت إيران عملاً باستراتيجية «الاقتصاد المقاوم» والدفاع عن النفس والمبادئ، من النجاح في مجال الصناعة الخفيفة والثقيلة وفي معظم المجالات الاقتصادية الأخرى ما خلا قطاع السياحة والخدمات المحاصر وبلغت حداً أمّنت فيه بجهد ذاتي ما يلامس 85 من السلع والخدمات الأساسية للشعب، كما أنها امتلكت قدرات عسكرية متطوّرة جداً مكّنتها من بناء قوى عسكرية قادرة على الدفاع عن الإقليم، ثمّ امتلكت قدرات ردعية كافية لمنع أيّ اعتداء عليها، وأذهلت مَن حاصرها عندما امتلكت مقاليد التقنية النووية إلى حدّ بات الغرب يتخوّف من قدرة إيران على تصنيع القنبلة النووية، خوف لم يسقطه على الأقلّ إعلامياً، تأكيد إيران المتكرّر بأنها ليست معنية بهذه القنبلة وليست بصدد السعي إليها. لكن الغرب لم يقتنع وأصرّ على اتخاذ الأمر ذريعة لتشديد الحظر والحصار بعد أن وصل إلى قناعة بعجزه عن شنّ حرب تدميرية تسقط الدولة، كما فعل في العراق.
وفي مواجهة التشديد الغربي الذي بلغ أقصى درجاته في العام 2013 ظلت إيران متماسكة وصامدة ومتمسّكة بحقوقها لا بل «تهدّد» الغرب بالمزيد من النجاح في «الاقتصاد المقاوم» الذي خسر الغرب عبره سوقاً من 80 مليون مستهلك وميداناً واسعاً للاستثمار، واقتنع الغرب في النهاية بأنّ سياسة الحصار لن تخضع إيران، لا بل إنها باتت ترتدّ سلباً عليه، فاضطر أن يدخل في مفاوضات جدية، ما قاده إلى اتفاق معها، مكّنها من إسقاط الحظر الذي مورس عليها طيلة تلك السنين.
والآن ومع سقوط الحظر الذي قادته أميركا ومعها أوروبا، وشرّع دولياً بقرارات من مجلس الأمن، يطرح السؤال: إلى أين تتجه إيران والمنطقة؟ وكيف سيكون العالم مع إيران العائدة إلى خريطة العلاقات الدولية عضواً مكتمل الصفات والخصائص، له ما للدول من حقوق ويستطيع أن يلتزم كما تلتزم الدول بالواجبات، وأن يشعر المنتمي إليه أنه حرّ في التصرف والحركة والعمل، كما يعمل الآخرون من دون قيود وحصار وحظر من هنا وهناك؟
لا شك في أنّ سقوط الحظر سيكون له من الارتدادات والتداعيات ما لا يمكن حصره في باب أو مجال، ويمكن اعتبار يوم سقوطه يوماً وطنياً إيرانياً ويوم انتصار فكرة الاستقلال عالمياً، أما تداعياته فتتردّد في أكثر من ساحة، داخلياً وإقليمياً ودولياً، نذكر منها:
1 ـ تطوير العمل بنظرية «الاقتصاد المقاوم» المنفتح، وستقدّم إيران نموذجاً فذاً يمكن أن يُحتذى من قبل الدول الساعية إلى الاستقلال الحقيقي، فإيران بعد سقوط الحظر لن تنفتح على الخارج بشكل تصبح فيه سوقاً استهلاكياً وتخسر مكتسبات المرحلة السابقة، بل إنها كما يبدو تشترط على صاحب السلعة أن يرفق سلعته بتقنيته التصنيعية ما يوفر لها تعزيز فرص السعي للاكتفاء الذاتي مع الاستفادة من تقنيات الخارج.
2 ـ تغيير وظيفة النفط كسلعة استراتيجية تُستَعمل ضدّها إلى سلعة تحاصر دعاة العدوان عليها وعلى محور المقاومة وسيشكّل رفع إيران لصادراتها النفطية بمعدل مليون برميل يومياً فرصة لتخفيض الأسعار التي طالما استعملت ضدّ الاقتصاد الإيراني ما سيؤدّي إلى ارتداد الكيديّة السعودية في حرب النفط على أصحابها وانقلاب الخنجر الذي شاءوا غرزه في ظهر إيران إلى سيف بيدها تشهره للدفاع عن مصالحها وحقوق شعوب المنطقة. فانخفاض سعر النفط سيعوّض إيرانياً بزيادة حجم الصادرات النفطية وسيتزامن مع تلقي إيران لـ 150 مليار من الخارج كانت مجمّدة أو مصادرة أو…
3 ـ تعزيز علاقات إيران الخارجية في مجال الصناعة العسكرية، من خلال دخول إيران سوق السلاح المنخفض الكلفة والمتقدّم تقنياً ونوعياً، ما يؤثر أيضاً في توسيع فضاء إيران الحيوي الاستراتيجي ويتيح فرص إقامة علاقات مؤثرة مع دول جديدة، وهنا كان لافتاً أن تستقبل إيران رئيس الوزراء الباكستاني بعد 72 ساعة من سقوط الحظر.
4 ـ تحرُّر إيران من القيود والأثقال ما يمكنها من التعاطي الرشيق مع ملفات الإقليم، بشكل يعيد الأمن والسلام إلى المنطقة، كما يعطي إيران أرجحية تنافسية مع دول أخرى، بخاصة تركيا والسعودية اللتين ستشهدان حتماً ضموراً مؤكداً في فضائهما الاستراتيجي بعد إخفاق سياستهما العدوانية والتخبّط في مشاكل داخلية تكاد تكون مستعصية.
5 ـ امتلاك إيران القدرة على إقامة القوة الإقليمية القادرة على ترسيخ نظام إقليمي جديد يقيم شرق أوسط لأهله على أنقاض «الشرق الأوسط الجديد» الأميركي الهوية والسيطرة.
6 ـ تحريك جدّي لعمليات البحث عن حلول لأزمات المنطقة بشراكة إيرانية فاعلة، خاصة في كلّ من البحرين واليمن ولبنان وسورية والعراق، ولن يجرؤ أحد بعد اليوم على تجاهل الدور الإيراني، وبالتالي سيكون محور المقاومة هو الرقم الصعب في معادلة هندسة الحلول.
7 ـ وتبقى كلمة تُقال لدول الخليج التي عليها أن تختار في العلاقة مع إيران بين التعاون والاشتراك في الأرباح المحققة وجعل المكاسب إقليمية، أو العداء وعندها ستكون وحدها الخاسر، وتكون في الخندق الواحد مع «إسرائيل» التي ترى في سقوط الحظر يوماً «إسرائيلياً» حزيناً، لأنّ إيران التي تعتبرها إسرائيل رأس أعدائها، لا بل تكاد تنحصر صفة العدو المؤلم بها وبحزب الله الذي تدعمه، إيران هذه ستكون أقوى وأفعل بعد سقوط الحظر ولن يمكن لأحد احتواؤها أو إخضاعها.
(البناء)