معاني الانتصار الإيراني
غالب قنديل
بعد مباشرة تطبيق الاتفاق النووي تتجه التطورات إلى انعتاق القوة الاقتصادية الإيرانية من حلقة العقوبات والحصار بصورة تتيح لهذه الدولة المشرقية الكبرى أن تحصد ثمار تطورها بقدراتها الذاتية الضخمة عبر الجمع بين ثلاثة عناصر : الموارد الطبيعية الهائلة والمتنوعة في بلد يحتل مكانة استراتيجية ، الثورة الصناعية التقنية التي استندت إلى جيش جرار من العلماء والخبراء والمهندسين ، والإرادة السياسية الاستقلالية التي فرضت كسر الحواجز في طريق العلاقات والشراكات الدولية والإقليمية التي تمت عرقلتها خلال العقود الأربعة المنصرمة منذ انتصار الثورة .
أولا ينتصر النموذج الإيراني في طريق الاستقلال السياسي والاقتصادي ومقاومة الهيمنة الاستعمارية انطلاقا من حالة الصمود الشعبي ومستوى الوعي الوطني الذي حققته الثورة في مسارها ومن خلال تحويل التهديد الاستعماري إلى فرصة للاكتفاء الذاتي وللصمود في وجه أعتى حصار من نوعه يفرض على دولة مستقلة تمكنت من بناء تحالفات وثيقة مع الدول الحرة المناهضة للهيمنة وقد كان اولئك شركاء إيران في صمودها وفي معاركها السياسية وفي بلورة توازن القوى العالمي والإقليمي الجديد الذي اضطر الإمبراطورية الأميركية وحلف الاستعمار الغربي إلى الرضوخ بعد محاولات متكررة وتهديدات متواصلة أميركية وصهيونية …
شركاء إيران في الملحمة التاريخية هم سورية وحزب الله والمقاومة الفلسطينية في المنطقة وروسيا والصين والهند ودول البريكس في العالم وإلى هؤلاء الشركاء المخلصين الذين تجمعهم بإيران وحدة الموقف والمصير في مواجهة الطاغوت الاستعماري توجه الرئيس روحاني مؤكدا التصميم على تطوير التحالف والشراكة وهو بذلك يثبت من موقعه حقيقة ان إيران بعد إسقاط الحصار ستكون على علاقة أشد متانة والتحاما مع محورها في المنطقة ومع شركائها في العالم لأنها تعرف جيدا كيف استطاعت انتزاع حقوقها وفرض إرادتها الحرة وهذا ما سيمثل قوة دفع لتطورها التاريخي وهي بعد الزيارة الهامة للرئيس الروسي تتحضر لاستقبال الرئيس الصيني الزائر الأول على هذا المستوى الرفيع بعد إلغاء العقوبات وفي الثقافة الإيرانية ثمة رمزية معبرة لكل حدث ولكل خطوة.
ثانيا منذ توقيع الاتفاق النووي برهنت المواقف الإيرانية المساندة للجمهورية العربية السورية والمستمرة في حضانتها لقضية فلسطين ودعمها للانتفاضة والمقاومة داخل الوطن المحتل ترسيخا لهوية الجمهورية الإسلامية كقوة تحررية مناهضة للاستعمار والصهيونية في المنطقة وهذا الاتجاه مستمر وسيسير قدما كنهج سياسي وثقافي تراكمه طهران منذ فجر الثورة التي تحل ذكرى انتصارها بعد أقل من أسبوعين.
لم تفلح جميع العروض الأميركية والغربية المغرية كما لم تفلح الضغوط والتهديدات والهستيريا الصهيونية في ثني إيران عن ذلك النهج الاستقلالي الحر وعن المبدأ الاستراتيجي الفذ الذي صاغ به الإمام الراحل آية الله الخميني هوية الجمهورية بعد إسقاط الشاه العميل وزعيم المعسكر الرجعي في المنطقة الذي دانت له جميع الحكومات العميلة للغرب وتلقت منه التعليمات وتبعته في طريق التحالف مع الكيان الصهيوني .
لقد توصل الإمام الخميني بعبقريته الاستراتيجية إلى إدراك ان صعود أي قوة مستقلة في المنطقة كإيران مرتبط حكما بالصراع ضد الكيان الصهيوني الذي يمثل منذ اغتصاب فلسطين مركز منظومة الهيمنة الاستعمارية وهو ما برهنت عليه جميع الأحداث والتطورات خلال أكثر من سبعين عاما متتالية وهكذا قاد الإمام السيد علي الخامنئي بإبداع وبصلابة نادرة ومعه شعب إيران معركة التفاوض بحزم شديد يمنع فتح أي ثغرة في جدار الموقف الإيراني الشريف من الكيان الصهيوني وترسخت علاقة التحالف الوثيقة مع سورية ومع رئيسها المقاوم بشار الأسد وخرج المستعمرون والصهاينة بخفي حنين وقد برهنت المواقف الإيرانية من سورية وفلسطين على ثبات حاسم في السياسة الإيرانية التي حافظت على مبادئها دون تفريط او مساومة في معركة التفاوض كما في ساحات المجابهة.
ثالثا لن تفلح السدود التي تسعى الرجعية العربية لإقامتها في وجه قوة النموج الإيراني لمعارك الاستقلال والتحرر والبناء الوطني فإشعاع التجربة الحية سيفرض نفسه عاجلا ام آجلا وسوف يقارن العرب العاديون بين مذلة التابعين وعزة الأحرار في التعامل مع حكومات الغرب الاستعماري وسيكون على النخب العربية غير الملوثة بالارتزاق والعمالة ان تفتح اوسع المجالات لدراسة وفهم العبر التاريخية الغنية في تجربة إيران الملهمة لجميع حركات التحرر سواء في انتزاع الحقوق ام في البناء الذاتي المستقل الذي يعتمد على الموارد الوطنية والقدرات الوطنية والذي يستثمر اولا واخيرا في الإنسان كقوة منتجة واعية بهوية استقلالية حرة لا تحكمها عقد التبعة والخضوع للهيمنة امام جبابرة الاستعماري الغربي .
إيران الصناعية الناهضة قادمة إلى أسواق العالم وإيران التنمية والحداثة قادمة إلى العالم والمنطقة ومن يرد السير في هذا الطريق عليه اولا ان يمتلك الوعي والإرادة بمثل ما فعل قادة إيران ومخططو سياستها واقتصادها ومفجرو ثورتها التكنولوجية التي ادهشت العالم .
سوف يحتفل الإيرانيون بذكرى الثورة هذا العام وهم يحتفلون بانتصار استراتيجي كبير على الصهيونية والاستعمارالغربي وعلينا نحن العرب المنتمين إلى النهج التحرري ان نباشر دراسة تجربتهم لنستخرج الدروس في كيفية كسب معاركنا المستمرة وخصوصا في سورية كما في فلسطين فهنا يكمن التحدي وهو ما يدعونا إليه التاريخ الذي سيكتب لحظة انعتاق القوة الإيرانية بوصفها ولادة لمارد عالمي جديد سيكون له أثر كبير لصاح الشعوب وحركات التحرر والاستقلال الوطني في العالم .