أوباما يعترف: أميركا الأقوى في العالم يليها… الإرهاب؟ عصام نعمان
على غير عادته بدا باراك أوباما منتشياً، فخوراً بنفسه، متباهياً في خطاب «حال الإتحاد» أمام الكونغرس منتصفَ الأسبوع الماضي. ثمة سبب، ودافع، للنشوة غير العادية.
السبب هو أنّ الولايات المتحدة، في رأي الرئيس الأميركي الرابع والأربعين الذي تنتهي ولايته أواخرَ هذه السنة، هي «الدولة الأقوى على سطح الأرض ولا يوجد ثانٍ قريب منها … لأنّ قواتنا أفضل قوات محاربة في تاريخ العالم، ولم تجرؤ دولة أخرى على مهاجمتنا مباشرةً، أو هاجمت حلفاءنا، لأنها تدرك أنّ هذا المسار للدمار».
الدافع هو أنّ الانتخابات الرئاسية باتت على الأبواب، والجمهوريون يجهدون ويؤمّلون بالسيطرة على أعلى وأنفذ منصب في أميركا والعالم بعدما سيطروا، طيلة سنيّ ولايته، على مجلسيْ النواب والشيوخ، فلا بدّ من بذل جهد استثنائي لمواجهة هذا التحدّي نصرةً للمرشحين الديمقراطيين. وهل من سبيل للمواجهة أفضل من إبراز مواطن القوة والاقتدار في البلاد والنجاحات الكبرى التي حققتها بفضل إدارته الديمقراطية سحابةَ سنواته الثماني في سدة الرئاسة؟
شواهد متعددة قدّمها أوباما للتدليل على قوة أميركا واقتدارها. قال:
«نحن نُنفق على جيشنا أكثر من الدول الثماني التي تعقبنا».
«لم تجرؤ دولة على مهاجمتنا مباشرةً».
«استطلاعات الرأي تُظهر أنّ مكانتنا في العالم أقوى من أيّ وقت مضى».
«الناس لا يتطلعون إلى بكين أو موسكو لقيادتهم بل إلينا».
مع ذلك، أقرّ أوباما في معرض حديثه عن المتغيّرات الدولية، بأنّ «هناك انتقالاً يعني صعوداً اقتصادياً كبيراً للصين، وبرغم الانكماش الاقتصادي نجد أنّ روسيا تصبّ مواردها في أوكرانيا وسورية … والنظام الدولي يحاول التماشي مع هذه الحقيقة الجديدة، لكن الأمر يعود إلينا في صناعة هذا النظام، وللقيام بذلك جيداً علينا أن نحدّد الأولويات».
كيف رتّب أوباما أولوياته؟
قال: «الأولوية الأولى تتمثل في حماية الشعب الأميركي وملاحقة الشبكات الإرهابية». لماذا؟ لأنّ تنظيمَيْ «القاعدة» و»داعش» يشكّلان «تهديداً مباشراً لشعبنا … إذ يمكن لحفنة من الإرهابيين ممّن لا يقدّرون الحياة البشرية، بما في ذلك حياتهم، أن يُلحقوا أضراراً كبيرة. وهؤلاء يستخدمون الانترنت لتسميم عقول الأفراد داخل بلادنا. وهذا يقوّض حلفاءنا، وبالتالي فإنّ علينا اجتثاثهم».
هكذا اعترف أوباما، مداورةً، بأنّ الإرهاب هو الطرف الأقوى في العالم بعد أميركا. ولتفادي إحداث هلع بين الأميركيين وفي العالم، سارع أوباما إلى التحذير من «انّ الحديث عن حرب عالمية ثالثة يلّوح بها بعض المترشّحين للرئاسة يخدم دعاية الإرهابيين … لأنّ هؤلاء يشكّلون خطراً كبيراً على المدنيين، لكنهم لا يشكّلون خطراً على وجودنا القومي … أو أنّ «داعش» يمثل واحدة من أكبر الديانات في العالم».
صحيح أنّ «داعش» لا يمثل واحدة من أكبر الديانات في العالم، بل لا يمثل إلاّ شطراً محدوداً من الحضور الملياري للإسلام في المعمورة، لكن ليس صحيحاً على الإطلاق توصيف أوباما للإرهابيين بأنهم مجرد «حفنة». كيف يكونون «حفنة» وقد باتوا، باعتراف الرئيس الأميركي نفسه، يشكّلون «تهديداً مباشراً لشعبنا»؟
كيف يكون الإرهابيون حفنة وقد انتشروا أفراداً وجماعات في أربع جهات الأرض، ولا سيما في عالم الإسلام، يقتلون ويدمّرون ويشرّدون ويهدّدون وحدة دول عدّة بالتقسيم والتفتيت؟ أليس هذا ما يحدث في سورية والعراق وليبيا واليمن والصومال ونيجيريا بصورة مباشرة ومكلفة بشرياً ومادياً وسياسياً، ويحدث في مصر وتونس ولبنان وتركيا وباكستان واندونيسيا وبوركينا فاسو بصورة أقلّ عنفاً، وإنما بتداعيات سياسية متواترة؟
إلى ذلك، هل يجهل أوباما أم أنه يتجاهل قدرات هذه «الحفنة» مـن الإرهابيين، ولا سيما على الصعيد التكنولوجي، إذ أصبح في وسع تنظيم «داعش»، مثلاً، إجراء تجارب على تطوير صواريخ وأجهزة قيادة ذاتية للسيارات المفخخة، وكسْر أنظمة الحماية في أوروبا وإرسال المفخخات إلى أيّ مكان أو هدف يشاء؟
إذا كان حقاً يجهل ذلك فما عليه إلاّ أن يأمر وكالة الاستخبارات المركزية C.I.A. التي تحيط تماماً بكلّ هذه الظاهرات والقدرات بأن توفّر له التقرير الذي عرضته شبكة «سكاي نيوز» البريطانية بعنوان «داخل مختبرات أسلحة الإرهاب» عن قدرات «داعش» العسكرية تضمّن تسجيلات مسرّبة من مختبرات التنظيم في محافظة الرقة السورية، ما أثار دهشة «سكاي نيوز» وغيرها من وسائل الإعلام في الغرب من قدرات «داعش»، كما دهشة الخبراء الذين استعانت بهم لتقويم هذه الظاهرة.
المفارقة اللافتة في هذه المكتشفات والمعلومات كلّها، بطبيعة الحال، ليس «جهل» أوباما وغيره من قادة الدول الكبرى والإقليمية بل تجاهلهم لها متعمّدين باعتمادهم سياسات مزدوجة تجاه دول تعاني من حروب «داعش» فيها وعليها، كسورية والعراق، والتمادي في مهادنة التنظيمات الإرهابية وحتى دعمها ظناً منهم أنّ نشاطها القتالي في الدول المعانية من الإرهاب يساعد دولاً كبرى وأخرى إقليمية في ممارسة ضغوط عليها لإكراهها على الامتثال لمخططاتها وأغراضها السياسية والاقتصادية.
لا غلوّ في القول إنه يستحيل على أميركا أن تبقى الدولة الأقوى والأكثر أماناً في العالم، إذا ما بقي الإرهاب، باعتراف أوباما مداورةً، الطرف الذي يلي بلاده حيلةً واقتداراً بين سائر الدول والأطراف الناشطة في عالمنا المعاصر.
أجل، ما لم تتوقف الولايات المتحدة وغيرها عن مهادنة التنظيمات الإرهابية، بل الاستعانة بها أحياناً، والمباشرة في اجتثاثها، كما توعّدها أوباما في خطاب «حال الاتحاد»، فإنّ الإرهاب سيبقى الطرف الذي يليها حيلةً واقتداراً ومهابة.
… وكلّ ذلك على حساب الآخرين.
(البناء)