مقالات مختارة

أوباما عن حال الاتحاد : مناشدة للتفاؤل رغم العجز والقلق د.منذر سليمان

 

خطبة الوداع” ترسيخ ارث ومنصة انطلاق

       حرص الرئيس اوباما في خطابه للأمة على تهدئة وطمأنة الجمهور الاميركي للتحديات الواقعية، اتهمه خصومه بأنه “رسم صورة متفائلة لا تواكب القلق الشعبي” من تدني الاحوال الاقتصادية والهاجس الأمني؛” مع الاشارة الى ان الخطاب الرئاسي السنوي عادة ما يميل بدرجة حادة الى حال التفاؤل وتبرير فعالية السياسات السابقة. الرئيس اوباما من جانبه عانى بشدة من تصلب خصومه الجمهوريين منذ الانتخابات النصفية عام 2012 وتعطيلهم لعدد من برامجه وقراراته ومشاريعه، وتأليب القواعد الانتخابية ضده.

       اسلافه السابقين، لا سيما رونالد ريغان وبيل كلينتون، حققا بعض الانجازات الملموسة خاصة على الصعيد الاقتصادي الحيوي، وحظي خطابهما الاخير للأمة بشعبية اكبر مما يلاقيه الرئيس اوباما حاليا دون اغفال عامل الاصطفاف الحاد الراهن بين القوى الاجتماعية المختلفة.

       اوباما اضحى يعاني من شبه عزلة بين صفوف القسم الاعظم من الناخبين والذين يعتبرون عهده بأنه “باهت” ولم يستطع تحقيق وعوده الرئاسية التي اطلقها عام 2008. وتشير ابرز استطلاعات الرأي الى معارضة ما يربو عن نصف الناخبين لبرنامج الرعاية الصحية الشامل – اوباماكير، فضلا عن عدم الرضى من الاداء الاقتصادي ومعارضة نهجه في السياسة الخارجية.

       تزامن “خطاب الوداع” مع حادث احتجاز ايران لزورقين حربيين اميركيين وعلى متنهما عدد من البحارة الاميركيين بعد دخولهم المياه الاقليمية لايران في الخليج العربي، وشدد خصوم الرئيس على استثمار الحادث للنيل من سياساته الخاصة بايران وتجديد الخطاب المعادي لابرام الاتفاق النووي معها، ومطالبته باتخاذ اجراءات فورية متشددة من قبل اقطاب هامة في الحزبين.

       اوباما واجه تحدي خصومه المفتعل بالقفز عن الحادثة واخراجها من عوامل الصراع الاقليمي، واشاد بالشق الايجابي في تنفيذ ايران احد شروط الاتفاق النووي بالتخلي عن “نحو 90%” لمخزونها من اليورانيوم المخصب وبذلك “تفادى العالم اندلاع حرب اخرى؛” وسرعان ما ترجمه خصومه بانه “تجسيد لضعفه وتردده في الحسم.”

حكاية الخطاب الرئاسي السنوي

تطور الخطاب الرئاسي سريعا من تقرير تقليدي يقدم للسلطة التشريعية الى حفل علني صاخب بالاستناد الى الفقرة الثالثة من مادة الدستور الثانية التي تنص على “يتعين على الرئيس تقديم معلومات للكونغرس حول حال الأمة من وقت لآخر، ويوصي بالنظر ببعض التدابير التي يراها ضرورية وملائمة.”

       آلية التقرير لم تحدد شكله كتقرير سنوي، وفق النص الاصلي، كما لم تحدد ماهيته كخطاب يلقى تحت قبة مجلس النواب. يشار الى ان الرئيس الاسبق جيمي كارتر “سلّمَ” تقاريره السنوية الاربعة بصيغة خطية؛ وكذلك الأمر مع اسلافه الرؤساء هاري ترومان ودوايت ايزنهاور.

       منذ انبلاج عهد التلفزة وتطوره الى الصورة الرقمية بالغة الدقة، استغل الرؤساء من الحزبين فرصة “تقرير حال الأمة” كخطاب موجه للشعب “تزينه المفردات المنمقة والشعارات الوطنية حول فرادة الولايات المتحدة وعظمتها، وجدول بقائمة اهداف واعدة تطرح للجدل وان ليس بحكم التطبيق، تستضيف بموجبه شخصيات كبرى مدعوة تأخذ مكانها بجانب مقعد السيدة الاولى تسلط كاميرات التلفزة والصحافة الانظار عليها.” حقيقة الأمر ان الخطاب السنوي نادرا ما يتناول كنه حال الأمة كما كان مقصودا به.

خطبة الوداع” واحداث المنطقة العربية

     تشعب خطاب الرئيس اوباما كثيرا في العناوين العامة والانجازات التي تحققت، حتى لو لم تحظى بالاجماع، ليشكل معالم طريق يهتدي بها الرئيس المقبل، ايا كان، خاصة فيما يتعلق بشؤون الشرق الاوسط و”حماية المصالح الاميركية الحيوية” هناك.

       انتقل اوباما ببراعته الخطابية من الحشو اللغوي لعظمة بلاده والاطاحة جانبا بمزاعم خصومه انها تمر في مرحلة تراجع كقوة عظمى، للتأكيد على ان التهديد الاستراتيجي الماثل امامها “ليس مصدره امبراطوريات الشر بقدر ما هو نتيجة لتهاوي وفشل الدول” الوطنية. ولم يوفق بسرديته للتاريخ بأن “الصراع الدائر في منطقة الشرق الاوسط يعود بنا الى آلاف السنين.” العبارة ليست عابرة او زلة لسان، كما يعتقد للوهلة الاولى، بل تنم عن احساس واصرار داخلي لدى المؤسسة الحاكمة بعدم تحملها مسؤولية ما جرى ويجري من مآسي ليس على صعيد المنطقة العربية فحسب، بل على مستوى الكون بأكمله، جذرها الحقيقي نزعة السيطرة والهيمنة الاميركية على مفاصل القوة العالمية والخيرات الطبيعية.

       لم يتوقع احد، في حقيقة الأمر، تقديم الرئيس اوباما حلولا للتحديات والتهديدات العالمية، كما وصفها، وقفز سريعا لاعادة تصويب الاولوية على “محاربة والحاق الهزيمة بتنظيم الدولة الاسلامية وتعقب الشبكات الارهابية .. وتوفير الأمن والأمان للشعب الاميركي.” واوضح بما لا يدع مجالا للشك ان مصدر التهديد الحقيقي يأتي من “كل من القاعدة والآن تنظيم الدولة الاسلامية ..” مستدركا ان “داعش .. لا يعد تهديدا وجوديا” لاميركا.       وطمأن الرئيس اوباما شعبه بفعالية ويقظة سياسته التي “تدمر مصدر تمويل داعش، انابيب النفط المتنقلة،” على الرغم من ان الغارات الجوية الروسية حققت انجازات اكبر واشد وطأة ضد التنظيم وخطوطه الخلفية.

التشريعية، من الحزبين، والذين ملأوا امواج الاثير بانتقاد ادارته وتعديها على صلاحيات الكونغرس بدخول حرب طويلة، مما قد يعد انتهاكا دستوريا. وحسم الرئيس الأمر برمي الكرة في ملعب الكونغرس متحدياً قبوله ممارسة صلاحياته واصداره تفويض للرئيس بشن حرب على الارهاب. المسألة بالغة الدقة، اذ “يخشى” الحزب الجمهوري اصدار اي تفويض من شأنه “تقييد” حرية الرئيس المقبل، من خلال التناوب غير المعلن على السلطة، وتنفيذ اجندة الحزب بشن حروب اينما تقتضي “المصلحة الاستراتيجية،” وليس طمعا في تفويت الفرصة على الرئيس اوباما فحسب.

      ووبخ اوباما خصومه السياسيين لاعلائهم مشاعر “الضغينة والاشتباه بين الحزبين، والتي اضحت اسوأ من ذي قبل،” مناشدا توخيهم الحذر والاقتداء بالرؤساء العظام مثل ابراهام لينكولن وتيدي روزفلت اللذين بذلا جهودا مضنية لجسر هوة التفرقة في المجتمع بشكل عام.

       استغل الرئيس اوباما التركيز السياسي والاعلامي، ولو لليلة واحدة، للرد على خصومه من مرشحي الرئاسة عن الحزب الجمهوري مذكرا بأن “العالم يتطلع الينا لفض النزاعات وتقديم حلول للقضايا الخلافية، وينبغي علينا عدم الركون لاستخدام عبارات قاسية او المناداة بتفعيل قصف جوي شامل، قصف السجادة، ضد المدنيين.” وسخر قائلا ان ذلك الخطاب ربما يصلح للقفز على صدارة شاشات التلفزة “بيد انه غير فعال على المسرح الدولي.”

       كما انتقد المرشح الرئاسي دونالد ترامب متحاشيا ذكره بالاسم لتصريحاته التي “تستهدف فئات محددة نظرا لهويتها العرقية او انتمائها الديني .. اذ ان العالم يحترمنا ليس لترسانتنا العسكرية فحسب، بل للتنوع الاجتماعي والانفتاح واحترام كافة المعتقدات والمقدسات.” ورد ايضا على دعوات “الساسة المهينة للمسلمين، لا سيما وان استهداف وتخريب مسجد او تخويف الاطفال لا يجعلنا نشعر بالأمان.”

كيري يحدد معالم السياسة الخارجية

       لم يشأ الرئيس اوباما المرور في خطابه على تفاصيل السياسة الخارجية لبلاده، لنزع فتيل هجوم خصومه في الايام التالية؛ وارجأ المهمة لوزير الخارجية جون كيري الذي اعلن مسبقا عن نيته القاء خطاب مفصل لمعالم السياسة الخارجية يلقيه في اليوم التالي امام حشد منتخب من طلبة وقادة واعضاء “جامعة الدفاع الوطني.”

       كيري تناول عددا من القضايا “الاساسية” موضحا ان الجهود الرئيسة منكبة على “التصدي لنواة شبكات داعش في سوريا والعراق، والتضييق على جهود الارهابيين لانشاء فروع تستخدم كمنابر الهام للمجندين للقيام بشن هجمات في مناطق متعددة من العالم، بمن فيها داخل الولايات المتحدة.”

       واشاد كيري بما اعتبره سلسلة انجازات تحققت في العراق ضد “داعش .. التي لا يمكن انكارها او التغاضي عنها؛ لا سيما استعادة القوات العراقية باسناد من قوات التحالف معظم احياء مدينة الرمادي، وتحرير تكريت وعودة نحو 100،000 سُني والبدء باعادة بناء بيوتهم.” واستطرد في تعديد الانجازات لتشمل مدينة سنجار والقضاء على بعض قادة التنظيم، وقطع خطوط امداده، وحرمانه من نحو 40% من المساحات التي كان يسيطر عليها سابقا.

      فيما يخص الصراعات والتوترات الدولية، اعرب كيري عن أمله في التوصل لعلاقات تعاون افضل مع روسيا مشيرا الى جهود بلاده “تشديد وتيرة غاراتها الجوية في شمال سوريا، لتأييد شركائنا على طول الحدود المشتركة بين سوريا وتركيا .. ونوسع مروحة التعاون مع آخرين في المنطقة، بمن فيهم روسيا.”

       إتيانه على ذكر روسيا بالتحديد من شأنه التمهيد لعقد جولة المفاوضات المقبلة بين الاطراف السورية في جنيف، كما كان مقررا في السابق، ومواكبة لتحول سياسي في التوجهات الاميركية بأن “التعاون البناء مع روسيا وايران، فيما يخص سوريا، أمر حيوي على طريق تحقيق تقدم في المفاوضات.”

       ايران وملفها النووي احتلت المساحة الابرز في خطابه، بالتطابق مع التكهنات السابقة، خصوصا لبدء تحقق انجازات ملموسة في هذا الشأن في ذلك اليوم بالذات، يوم اعلان روسيا تسلمها 11 ألف طن من اليورانيوم المخصب لاخراجها خارج الاراضي الايرانية. وابدى كيري ارتياحا ملحوظا عند اعلانه بأن “ايران ماضية في طريقها لتفكيك مكونات حساسة من منشآتها النووية. بالأمس اخبرني وزير الخارجية، ظريف، ان مفاعل اساسي لتخصيب اليورانيوم اضحى خارج الخدمة الفعلية؛ وخلال الساعات المقبلة سنشهد طمره بالاسمنت المسلح وتدميره.”

       اتساقا مع الرئيس اوباما في خطابه الليلة السابقة، لم يشأ كيري تناول اعتقال البحارة الاميركيين من قبل ايران وحجز قاربيهما الحربيين، ربما كي لا يستبق الترتيبات الجارية بالافراج عنهم جميعا في غضون 24 ساعة، وايضا لتفويت الفرصة على الخصوم السياسيين لاستغلال الازمة لتقويض التقدم في الملف النووي.

الاعداد لخطاب الوداع

       اوكلت مهمة الترويج لمحتوى الخطاب لرئيس طاقم موظفي البيت الابيض، دينيس ماكدونو، الذي يتمتع بثقة عالية من قبل الرئيس اوباما، لا سيما وهو الذي ينسب اليه التحدث مع اوباما على انفراد، في باحة البيت الابيض، للموافقة على “صفقة” الاسلحة الكيميائية السورية مقابل وقف العدوان الاميركي المباشر. ماكدونو استبق الخطاب بالافصاح عن لهجة “واجراءات رئاسية جريئة” يعد لها الرئيس اوباما.

       وعقد ماكدونو لقاء صحافيا على مأدبة افطار لطمأنة المشككين بمبادرة الرئيس واقدامه على اتخاذ قراراته الخاصة نظرا لاحجام او فشل الكونغرس استصدار تشريعات محددة، لا سيما فيما يخص تعديل نظام الهجرة، وملفات اخرى يعتبرها البيت الابيض من اولوياته.

       وقال امامهم بصفة الجمع “سنقدم على اتخاذ قرارات رئاسية جريئة على امتداد ما يتبقى من زمن في العام الاخير للرئاسة، انني على ثقة تامة بذلك .. انطلاقا من الالتزام التام بضوابط العملية الجارية والتي تحدد ما يمكن المرء فعله” بصورة تضمن عدم تدخل الكونغرس لاحقا لاخراجه من الخدمة.

       كان لافتا لتفاعلات ماكدونو المفعمة بالتفاؤل ان الرئيس اوباما يعول على تحقيق الحزب الديموقراطي فوزا انتخابيا يعينه على التصدي للحزب الجمهوري، خاصة وان عددا من مرشحيه للانتخابات الرئاسية اطلق وعودا بابطال مفعول قرارات الرئيس اوباما فور تسلمه مهام المنصب.

       في ظل خريطة صراع وتحدي متواصل بين الرئيس اوباما وخصومه من الحزبين، اضحى مستقبل ارثه السياسي وما يمكنه من توريثه لخلفه المرشح الديموقراطي يعتمد على حكمة وتعقل استخدامه لحقه الرئاسي في اصدار “اوامر رئاسية” تتخذ مفعول القانون عوضا عن استصدار تشريعات بذلك، قبل مغادرته البيت الابيض. وعليه، ستحدد تلك الاجراءات المنتظرة ليس وجهة الارث السياسي فحسب، بل ديمومة القرارات الرئاسية التي عادة يلجأ اليها الرؤساء الاميركيين عند الضرورة.

       على ضوء ما تقدم من خلفية، باستطاعة المرء القول ان الرئيس اوباما يعد “لمنصة انطلاق” لفترة رئاسية ثالثة، ان جاز التعبير، والذي لا يسنده الدستور، بل في سياق التوطئة لفوز رئيس من الحزب الديموقراطي يحافظ على “انجازات” الرئيس اوباما المجسدة بقراراته الرئاسية.

       اوباما يدرك قبل غيره قلق القواعد الانتخابية للحزبين وميلها للاقلاع عن دعم قرارات رئاسية خارج السياق المتعارف عليه بين توافق السلطتين، التشريعية والتنفيذية. وجسد ذلك في اشارته اثناء الخطاب الى “خشية الاميركيين من التحديث وتطوير الاساليب،” على خلفية تفجر ازمة الاجهزة البيروقراطية للدولة بملاحقة مجموعات معينة: هيئة الضرائب المركزية ضد منظمات محسوبة على تيار المحافظين؛ هيئة ادارة شؤون المحاربين القدامى واهمالها العميق لرعاية المرضى مما ادى لوفاة عدد منهم وهم في حالة الانتظار؛ فضلا عن تقلبات سوق الاسهم والخسائر التي لحقت المساهمين دون ان تطال كبار اصحاب رؤوس الاموال.

       ادارة حالة الغضب الشعبي الواسعة قد تفضي الى تقليص آفاق ولاية الرئيس اوباما متفوقة بذلك على القرارت الرئاسية المرتقبة، او السياسة الخارجية، او الزهو ببعض الانجازات في عملية تشريع القوانين.    

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى