روسيا لن تستنزف في سورية
غالب قنديل
شكلت المبادرة الاستراتيجية التي أطلقها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين قبل أشهر في سورية بعد زيارة الرئيس بشار الأسد لموسكو اهم التحولات التاريخية العالمية منذ انهيار الاتحاد السوفييتي وتشير عوامل عديدة اقتصادية وسياسية واستراتيجية إلى ان الرهان الأميركي على تحول الدور الروسي إلى مصدر استنزاف للقوة الروسية يعاكس الوقائع العنيدة التي تحيط بالموضوع .
أولا خلافا لما كانت عليه حكومة كابول في أفغانستان عشية الدخول السوفييتي العسكري من عزلة شعبية تحظى الدولة الوطنية السورية والرئيس الدكتور بشار الأسد والجيش العربي السوري بمساندة شعبية واسعة لم تفلح في هزها جميع الحملات الإعلامية والسياسية المستمرة منذ انطلاق الحرب على سورية قبل خمس سنوات.
تشير الوقائع المتداولة إلى توسع ذلك التأييد الشعبي بفعل مقت المزيد من المواطنين السوريين للبدائل التي قدمها العدوان الاستعماري ميدانيا ( عصابات توحش وإرهاب دموي متعددة الجنسيات ) وسياسيا ( طوابير من العملاء والمرتزقة بلا حيثية اجتماعية ) وقد بات معروفا بقوة أن لدى أكثرية متزايدة من المواطنين السوريين الذين لحقت بهم آثار الحرب ونتائجها وغيرت حياتهم بقسوة ميل جارف لتأييد عودة الجيش والدولة إلى مناطقهم التي اجتاحتها التشكيلات المسلحة متعددة الجنسيات والمتناحرة في ما بينها على السلب والنهب وفرضت سلطة غاشمة متطرفة مارست عقابا جماعيا ووحشيا على الأهالي .
هذا ما يجعل الانخراط الروسي محاطا بأمل شعبي في تسريع حسم الأمور لصالح الجيش العربي السوري وقد فرضت الويلات التي عاشها السوريون كما في كل حروب التوحش حنينا شعبيا رائجا لظروف ما قبل الحرب وهو ما تناقلته وسائل إعلام عالمية عن مراسليها في مناطق سيطرة العصابات المسلحة التي تشهد بالتواتر مزيدا من هبات المقاومة الشعبية بل وانخراطا من بعض شبابها في عمليات عسكرية لمؤازرة الجيش .
ثانيا راكمت الدولة الوطنية السورية رغم الحصار والعقوبات والمصاعب الكثيرة مصداقية في علاقتها بمواطنيها سواء باستمرار مؤسساتها التربوية والصحية بالعمل في أعقد الظروف وعبر استدامة دفع رواتب موظفيها ودعمها للسلع الرئيسية وهي مظاهر مستمرة في جميع المناطق السورية بما فيها تلك التي اجتاحها الإرهاب بتصميم مباشر من الرئيس الأسد فمن المفارقات النافرة التي لفتت المراسلين والمعلقين الأجانب ان جميع موظفي القطاع العام السوري ما زالوا يتلقون رواتبهم بانتظام في سائر انحاء سورية بما في ذلك حيث تتواجد فصائل داعش والقاعدة وتشكيلات إرهابية متعددة .
من عناصر المصداقية المتراكمة لصالح الدولة الوطنية ورئيسها دعمها للمسار السياسي وتجاوبها مع جميع المبادرات التي عطلها حلف الحرب بواسطة عملائه في واجهات السياسية ودفع الدولة السورية القوي لمسار المصالحات التي اتاحت إخراج آلاف السوريين من صفوف الجماعات المسلحة في العديد من المناطق وهو مسار يتقدم بالتوازي مع تبدل ميزان القوى لصالح الجيش العربي السوري.
شكل ثبات الهوية الوطنية والعربية في الوجدان السوري وفي سلوكيات الدولة ومؤسساتها حاضنا للوحدة الوطنية التي لم تفلح المجازر وعمليات التحريض الطائفية في كسرها لتحويل الصراع إلى حرب أهلية كما يشتهي المخططون الاستعماريون ووفقا للصورة الافتراضية التي يعممها الإعلام المعادي عن سورية فبنية الهيكل القيادي للدولة الوطنية السورية ومواقف المؤسسات الدينية ضد العدوان الاستعماري وضد التطرف والتكفير وتمسكها بالوحدة الوطنية شكلت سدا منيعا لم تفلح في هزه جميع المحاولات المستميتة التي جرت خلال السنوات الماضية ولم يخلخل هذا الواقع ما ارتكب من اغتيالات ضد رجال الدين المتنورين الذين جاهروا برفض التكفير ودعوا إلى مقاومة الإرهاب والوقوف إلى جانب الدولة والجيش.
ثالثا هذا الواقع السياسي والشعبي يجعل الدور الروسي إلى جانب الغالبية الشعبية السورية التي تمثل كتلة وطنية راجحة ومرجحة يستند إليها الرئيس بشار الأسد ومن خلفه الدولة الوطنية والجيش العربي السوري بالشراكة مع القوى الشعبية الرديفة المقاتلة في حين ان نهج الدولة السورية العسكري والسياسي يقود إلى المزيد من العزلة الشعبية على الجماعات الإرهابية وهنا فرق نوعي وتاريخي في الاختلاف بين ظروف أفغانستان وظروف سورية .
أما في البعد الاقتصادي وكلفة التدخل الروسي الذي حقق تغييرا في التوازن العسكري والسياسي فقد كشف الرئيس فلاديمير بوتين عن كون نفقات الحملة الجوية في سورية تغطى من موازنات التدريب الخاصة بالجيش الروسي ويضاف لذلك عاملان حاسمان هما مصالح روسيا المنبثقة عن الشراكة مع سورية في استثمار مخزونات النفط والغاز الضخمة الموجودة في مياهها الإقليمية وحيث تصبح الكلفة كناية عن حصة استثمار بسيطة لحماية واردات ضخمة متوقعة خلال السنوات المقبلة في حين انه لا مجال لقياس العائد الاستراتيجي الناتج عن التواجد الروسي في المتوسط بأي اكلاف مالية فنهوض القوة الروسية وحضورها الفاعل في معادلات صياغة التوازنات والعلاقات الدولية هو المردود الثمين لدورها في سورية الذي اظهر قدرتها وتفوق أسلحتها كما برهن على صدقية أسلوبها في مكافحة الإرهاب وهذا له نتائج مباشرة سياسية واقتصادية تماثل أضعاف الكلفة الواقعية للعمليات الروسية التي شكلت ترويجا عينيا لمنتجات مصانع السلاح الروسية ولسياسة حكيمة وعاقلة تعتمد معايير القانون الدولي يطرحها الرئيس بوتين مقابل المخاتلة والكذب اللذين يميزان سلوك الإدارة الأميركية.