مقالات مختارة

الولايات المتحدة والنزاع السعودي الإيراني: د.منذر سليمان

دشنت السعودية دخول العام الجديد بتنفيذ احكام الاعدام بحق 47 شخصا، اشهرهم رجل الدين والناشط المدني الشيخ نمر باقر النمر .

انكب ابرز المحللين والمراقبين على “فك شيفرة” الدوافع السعودية وسبر اغوار حساباتها الاقليمية في ظل انخراطها في حربيين متوازيتين، سوريا واليمن، وتردي علاقاتها مع الولايات المتحدة وتعرضها لانتقادات قاسية من معظم الدول الاوربية، مجاراة لمطالب شعوبها بمعاقبة السعودية لانتهاكاتها المستمرة “لحقوق الانسان، وحرمان المرأة من حقوقها ..الخ.”

ولفتوا النظر الى ان السعودية، التي كانت تعتبر نفسها قوة اقليمية باستطاعتها املاء رغباتها على القوى والدول المختلفة، قررت احاديا الدخول في صراع مفتوح مع ايران التي رفعتها لمرتبة العدو الاول وطالبت اعوانها الاقتداء بها، ولم يؤيدها في قطع علاقاتها الديبلوماسية مع طهران سوى البحرين والسودان. يشار الى ان السودان اقدم على سحب سفيره من طهران منذ بدء احداث “الربيع العربي،” واصطفافه بالكامل الى جانب الموقف السعودي.

في هذا السياق، اقدمت السعودية على فعلتها طمعا للحد من تدهور مكانتها التي رسمتها باملاءاتها الخاصة ورغباتها الذاتية وليس بناء على وقائع وضوابط واحكام الجغرافيا السياسية، وللحد من انزلاق نفوذها المتآكل منذ زمن.

البعض” النافذ في آلية القرار السعودي يدرك ما حل بمكانة بلاده من انحدار وتدهور متسارع، كما يستدل من تسريبات مصدرها كبار السياسيين الاميركيين والذين على دراية معمقة لخفايا خلافات القوى القابعة وراء اسوار القصور الملكية والاميرية. يجزم الفريق الاول ان ابرام الاتفاق النووي بين ايران والدول الكبرى الست جاء تجسيدا لمسار افول نفوذ المملكة السعودية.

للدلالة، دروس التاريخ وخبراء الاستراتيجيا تشير بمجموعها الى ان التصرفات والسياسات المتهورة والطائشة والمغامرات آفة تحكم القوى المتدحرجة (السعودية) وليس الدول والقوى الصاعدة لتثبيت مكانتها (ايران)، والتي عادة ما تتحلى بقدر وافر من التأني والتروّي والصبر والمثابرة، وفق وصف بعض الخبراء الاميركيين.

الخبير المقرب من المؤسسة الحاكمة، ديفيد اتواي، وصف المسلك السعودي بأنه “يتطابق مع نمط ثابت منذ زمن للاقدام على اتخاذ تدابير صعبة للغاية كلما شعرت قيادة (السعودية) بانها تخضع لضغوط اجنبية او محلية شديدة.” وذكّر اوتواي بقول منسوب لوزير الداخلية السعودي السابق، نايف بن عبد العزيز، موجها كلامه للقوى المدنية المطالبة باصلاحات بأن آل سعود تبوأوا مركز الحكم بقوة السيف وان تطلبت الضرورة يمكن العودة لاستخدامه مرة اخرى.

في زاوية التداعيات الملموسة، اوردت مجلة فورين افيرز المرموقة في احدث اصداراتها على خلفية قطع السعودية علاقاتها الديبلوماسية والتجارية مع ايران ان من شأنها “تأجيج الصراعات الجارية في سوريا واليمن وتعقيد الجهود الرامية لوضع حد لهما؛ وتقويض الحملة الدولية التي تقودها الولايات المتحدة ضد الدولة الاسلامية في العراق والشام.” واستطردت ان مضي السعودية بقرار اعدام الشيخ النمر وتجاهلها للتحذيرات الدولية “اسفرت عن تصدعات حقيقة فيما كان يعتبر علاقات شراكة (مع اميركا) ويعرضها لتساؤلات جادة حول مستقبلها ووجهتها.”

لا ينبغي الاصطفاف الى تغليب احدى وجهتي النظر، في مناخ الصراع الاقليمي بين ايران والسعودية، بل لرصد وقائع ملموسة ينبغي اخذها بالحسبان للتوقف امام المبررات وراء تصرفات وقرارات متهورة تتخذها السعودية في سرعة من امرها وغير مفهومة للمراقبين والمتابعين للحدث الاقليمي على السواء. وعلى الضفة المقابلة، تسجيل ما آلت اليه نتائج “المناورات الميكيافيلية” (اشارة لمواقف تتسم بالخداع والدهاء) لايران التي وفرت لها فرصة للعب دور صاحب النفوذ الاكبر في المنطقة، بعد تراجع الدور الاميركي نتيجة حروبه في العراق وافغانستان.

ضمن آفاق هذه المعادلة، تجدر الاشارة الى التحولات الضاغطة على مواقف الدول الاوروبية على الرغم من انصياعها للقرار الاميركي. لخصت يومية نيويورك تايمز المواقف الاوروبية بأنها “تنحاز نحو تأييد ايران ضد السعودية،” عدد 4 كانون2/ يناير الجاري، ليس انطلاقا من مواقف “مبدئية” مسبقة بمعارضة عقوبة الاعدام بالمطلق فحسب، بل لتنامي معارضة الرأي العام الاوروبي “لدعم وتمويل السعودية للوهابيين والدعاة السلفيين الذين اسهموا مباشرة بنشوء ايديولوجية متطرفة،” وما لحق بعض العواصم الاوروبية من الآما نتيجة التطرف والتكفير.

واعربت الصحيفة عن تبلور قناعة بين النخب الفكرية والسياسية الاوروبية تفيد بأن مساعي السعودية “لمحاصرة ايران ستبوء بالفشل .. وربما تنذر بتحطيم الانجازات التي تم حياكتها بدقة وتأنٍ لوقف البرنامج النووي الايراني.” واضافت ان الشعور العام في اوروبا يحمل السعودية مسؤولية تهييج حدة الخلاف الاخير واقدامها على اعدام الشيخ نمر النمر.”

في الجانب الاميركي، رصدت النخب الفكرية التحولات السريعة التي طرأت على موقف الصين عبر تخفيف اعتمادها على السعودية “وطلب ود ايران .. التي تنظر اليها كافضل دولة تتمتع بالاستقرار في المنطقة، ويساورها القلق من المسلك السعودي” بتأجيج الخلافات واللعب على حافة الهاوية، كما يعتقد البعض.

اميركا حائرة بين ايران والسعودية

موقف واشنطن الرسمي اتسم بالتروي الشديد رغم اطلاق التصريحات المزدوجة، التي لا تؤيد ولا تدين المسلك السعودي، وطالبت القادة الاقليميين “في عموم المنطقة اتخاذ خطوات ايجابية لتهدئة التوترات.” وعللت موقفها مرارا انطلاقا من “قناعتها بأن الانخراط الديبلوماسي والمحادثات المباشرة تبقى ضرورية للتغلب على الخلافات ..” وفي احدث تصريحات وزارة الخارجية ابتعدت فيه عن تأييد مساعي محتملة لوساطات متعددة: العراق والصين وعُمان، مشددة على الحوار الثنائي المباشر. (8 يناير الجاري).

       يعتقد البعض في واشنطن ان الادارة الاميركية في حيرة من امرها “اذ ليس بمقدورها توجيه ادانة علنية لقرار السعودية باعدام رجل الدين المعارض،” نيويورك تايمز 4 يناير، ومن ثم “تقويض مكانة القيادة السعودية الهشة وهي بحاجة ماسة اليها للاصطفاف الى جانبها في محاربة داعش،” وطمعها في الحفاظ على “العلاقة الخاصة” التي تربط الطرفين. بالمقابل، ميلها لتأييد ايران، وما ينطوي عليه من كلفة باهظة في التوازنات الاقليمية الراهنة على الرغم من رغبة جامحة في واشنطن لاقامة علاقات “ودية” مع طهران بعد عقود طويلة من عدم الثقة المتبادلة والعداء المعلن.

       “تجرأت” الرياض على “توبيخ” واشنطن علنا عام 2011 لاحجام الرئيس اوباما عن الوقوف بجانب الرئيس المصري المخلوع، حسني مبارك، وفي الخلفية تكرار واشنطن لمسلكها ان تعرضت الرياض لتحركات ومطالب جماهيرية مماثلة.

       لطمأنة الداخل الاميركي، صرحت واشنطن الرسمية بانها بذلت جهودا متعددة لدى الرياض تحذرها من تداعيات اقدامها على تنفيذ الاعدام بحق الشيخ النمر، عبر وزير الخارجية جون كيري، واختارت الرياض “تجاهل التحذير الاميركي.” وصرح البيت الابيض مطلع الاسبوع الماضي ان “رسالة القلق الاميركية تم اثارتها مسبقا مع الجانب السعودي .. وادى تنفيذ الاعدام الى تسريع التداعيات التي حذرنا منها.”

       من بين حصيلة التداعيات المذكورة تنتشر تساؤلات اميركية مشروعة للحكمة من وراء الابقاء على “العلاقة الخاصة .. لا سيما وان السعودية اضحت مبعثا للقلق اكثر مما تتحمله الولايات المتحدة.” وبناء على السياق المشار اليه تتعزز مطالبة واشنطن التعامل بحنكة وواقعية مع المتغيرات الدولية وربما الاقدام على اتخاذ خطوة غير مسبوقة باتجاه طهران وكسر حائط المحرمات السابقة الذي تصدع بفعل توقيع الاتفاق النووي.

       هاجس البيت الابيض، منذ الآن وحتى انقضاء ولاية الرئيس اوباما في العشرين من كانون2/يناير 2017، يستند على ركيزتين: الحرص على ادامة استقرار المنطقة، وضمان تنفيذ بنود الاتفاق النووي بسلاسة ويسر، وعدم توفير الذريعة لاي من الفرقاء الاطاحة به او النيل من تطبيقه.

       التقارب العلني بين السعودية و”اسرائيل” ليس وليد اللحظة الراهنة او ناجم عن تضافر اهدافهما في معارضة الاتفاق النووي مع ايران فحسب، بل يمتد عميقا في تاريخ نشأة كليهما تحت رعاية بريطانية واميركية. من نافل القول ان مفاوضات الاتفاق النووي حفزت كليهما “تنسيق” تحركاتهما واستغلال تباين نفوذهما وفعاليته للضغط على اعضاء الكونغرس وحفزه على توسيع دائرة معارضي الاتفاق.

ترددت انباء في واشنطن في الآونة الماضية، لم يتم نفيها، عن سماح السعودية لسلاح الطيران “الاسرائيلي” استخدام اجوائها لتوجيه ضربة للمنشآت النووية الايرانية. ادارة الرئيس اوباما اخذت علما بذل واتخذت عدد من الاجراءات لتقويض “ضربة وقائية احادية” على ايران تقوض سياساتها وتوازناتها الدولية، منها التنصت على اتصالات بنيامين نتياهو، وفق ما تم الاكشف عنه حديثا، فضلا عن نقل مكان المفاوضات بعيدا عن جنيف التي نجح فيها “الموساد” بزرع اجهزة تنصت متطورة على الوفود المتعددة ومنها الوفد الاميركي.

التثبت من معطيات راهنة، نستطيع القول ان السعودية قررت بمفردها التحرك نحو توتير العلاقات مع ايران، بدعم وتأييد “اسرائيلي،” مطمئنة لعدم معارضة الحكومة الاميركية، علنا على الاقل.

لم تستجب السعودية لجهود الوساطات المتعددة، آخرها كانت روسيا، التي تخشى واشنطن استغلالها الازمة المستجدة لاستعادة نفوذها وموقعها كدولة كبرى بين الاقوياء. وقالت وزارة الخارجية الروسية انها “على اتم الاستعداد للعب دور الوسيط بين السعودية وايران لاحتواء التوتر .. وجهوزية موسكو لاستضافة لقاء بين وزيري خارجية البلدين، عادل الجبير ومحمد جواد ظريف.”

احد السفراء الاميركيين السابقين ممن مثل مصالح بلاده في الرياض ادلى بدلوه في تفسير العقلية المتحكمة بالازمة قائلا “بالنسبة للاسرة السعودية المالكة لا تعتبر ان بامكان الولايات المتحدة لعب دور الوسيط النزيه نظرا لاهدارها النفوذ الاميركي السابق مع الاسرة مقابل صفر حصدته من طهران.” ومضى موضحا ان لا احدا “يثق بجهود (الرئيس) اوباما لحفظ السلم في المنطقة بعد الآن. ويعتقدون (الاسرة المالكة) ان طهران قدمت له اتفاقا نوويا لا احد يعتقد انه قابل للتنفيذ – مقابل استعادة (ايران) اصولها المجمدة التي تبلغ 100 مليار دولار؛ والتي ستستخدمها في دعم حلفائها في سوريا والعراق.”

واعرب الديبلوماسي السابق عن اعتقاده ان تراكم القلق من التقارب مع ايران “حفز السعودية للمضي باتخاذ خطوات احادية الجانب .. غير آبهة بموقف واشنطن، بغية عزل ايران ودفعها وحلفائها للخلف.”

الفريق الاميركي المناويء لسياسة الرئيس اوباما يعتقد ان ما تبقى من خيارات يمكنها تطبيقها بحق ايران اضحت محدودة، لا سيما في حرص ادارته على عدم الانجرار وراء الدعوات المطالبة بمعاقبة ايران على خلفية تجربتها الاخيرة على الصواريخ الباليستية لخشيته، كما يعتقد، من رفع وتيرة الضغوط على طهران وتعريض المكتسبات التي حققها الى خسارة صافية تفقده رصيد اساسي من ارثه الرئاسي.

توجهات الرأي العام الاميركي تدعم تروي الرئيس اوباما نوعا ما، اذ تشير احدث استطلاعات الرأي الى قلق الجمهور الاميركي من تصاعد التوتر بين السعودية وايران، ويعول على استفادة واشنطن من دروس التوريط السابقة والنأي بنفسها عن ازمة كان يمكن تفاديها بتغليب الحكمة والبصيرة.

واشنطن الرسمية معنية بالحفاظ على “مصالحها” في المنطقة المتمثلة في نفوذ شركاتها الكبرى وعلى رأسها قطاع الاسلحة والنفط، وتلجأ عند كل نقطة انعطاف سياسية الى اقرار بيعها مزيد من الاسلحة والمعدات العسكرية للسعودية ودول الخليج الاخرى لاسترضائها، بصرف النظر عن قلق الاقتصاديين لناحية قدرة السعودية والآخرين الوفاء بالتزاماتهم المالية في ظل تراجع اسعار النفط في الاسواق العالمية، يقابلها استنزاف هائل للموارد والاحتياطات السعودية لتمويل حربها المزدوجة على اليمن وسوريا.

صفقات الاسلحة المبرمة مع الدول الخليجية لا تمثل حلولا طويلة الاجل لازمات آنية بأي حال من الاحوال، ووشنطن تدرك ذلك بعمق، بيد انها بقدر ما لها من مفعول “لاسترضاء” السعودية تسهم فقط في تنمية التوترات وتصاعدها بين الرياض وطهران؛ ويتم ترحيل حلها الى ادارة الرئيس المقبل مع الحرص على احتوائها دون سقف الانفجار التام.

       في هذا الشأن، حثت فورين افيرز، سالفة الذكر، الرئيس اوباما استخدام نفوذ بلاده الهائل ومخاطبة العاهل السعودي مباشرة وبعيدا عن وسائل الاعلام بان الولايات المتحدة “غير راضية عن وجهة علاقة الشراكة الأمنية مع السعودية، وينبغي عليها بذل جهود تعاون اكبر لحماية المصالح المشتركة .. منها وقف مصادر تمويل داعش من شبكة المصادر الداخلية المتشعبة، تخفيف حدة التوترات مع ايران، تخفيض حدة الخطاب الطائفي .. والتلويح بأن الولايات المتحدة ستوقف توريد وتسليم كافة المعدات اللوجستية والدعم الاستخباراتي للقوات السعودية في اليمن.”

ميليشيات اميركية تتمرّد على الحكومة الفيدرالية

تختلف الروايات لناحية تحديد زمن انطلاق ونشأة الميليشيات المسلحة في الداخل الاميركي، كتعبيرات عن شرائح اجتماعية مناهضة لنفوذ وسيطرة الدولة المركزية، بيد انها اتخذت طابع الاشتباك المباشر مع اجهزة الدولة، ربيع عام 1995، حين استهدف مجمع مباني حكومية في مدينة (اوكلاهوما سيتي)، ما رافقه من تقصي وتحقيق كشفت عن وجود منظم لوحدات مسلحة جلها من التيارات اليمينية المتشددة، قوامها الشرائح الشعبية المهمشة من البيض، بتسليح وتدريب من افراد ومجموعات انخرطت في القوات المسلحة الاميركية – بعضها بهدف اكتساب الخبرة القتالية وتدريب الآخرين.

في الآونة الاخيرة، ومنذ عامين تقريبا، اشتبكت بعض تلك المجموعات مع الاجهزة الحكومية الفيدرالية في الشطر الغربي من الولايات المتحدة، محورها “حق التصرف الفردي” بمساحات شاسعة من الاراضي الاميركية المملوكة للدولة بغرض استغلالها في رعي قطاعات البقر والماشية دون الحصول على اذونات مسبقة او دفع ثمن مقابل ذلك. الطبيعة الوعرة لجبال الروكي حصرت استغلال الاراضي كمراعي للماشية، والبعض انشأ مراكز مدنية عليها.

جدير بالذكر ان الدولة المركزية (الفيدرالية) تمتلك نحو 47% من كافة مساحة الاراضي “البرية” في غربي القارة الاميركية، وفق بيانات يومية نيويورك تايمز، 5 يناير الجاري؛ وتصل نسبة ملكيتها الى اغلبية اراضي ولايات “اوريغون ويوتاه ونيفادا.” في الخلفية يتجدد الصراع بين الدولة الفيدرالية “والمستوطنون” البيض في الشطر الغربي من القارة منذ ولادة النظام الاميركي، والتي استولت عليها القوات الفيدرالية بعد طرد السكان الاصليين.

غضت الحكومة المركزية الطرف عن استثمار مربي الماشية لمساحات شاسعة من الاراضي المذكورة لمصالحهم الخاصة، لفترات زمنية طويلة، بل وفرت الحماية لاولئك ضد مقاومة السكان الاصليين ضمن رؤيتها “لتوزيع” الاراضي، الأمر الذي عاد عليها “بنتائج ايجابية مذهلة في اواسط البلاد الغنية، شرقي ضفاف نهر الميسيسيبي.” في تلك المنطقة، نسبة ممتلكات الدولة المركزية لا تتعدى 4% من مجموع الاراضي البرية – ايضا وفق مصادر صحيفة نيويورك تايمز.

شهدت سياسات الدولة المركزية تعديلات متعددة في العقود الاخيرة على آلية منح الاراضي للاستثمار الريفي، كمزارع او مساكن، وبلورت برامج فيدرالية تتيح لها التحكم والتصرف بما تبقى من اراضي تحت سيطرتها؛ وهي التي اضحت بؤرة صراع مع الميليشيات المسلحة المنتشرة بكثرة في المناطق الريفية البعيدة.

اوكلت مهام الاشراف والتصرف الى “هيئة ادارة الاراضي،” التي تتحكم بالاشراف على مساحات شاسعة تبلغ مساحتها الاجمالية 247 مليون فدان، مليار كلم مربع، تعلن عنه “تأجيرها” لمزارعي ومربي الماشية، وكذلك لشركات المناجم والتنقيب عن النفط والغاز.

اخر تعبيرات التحدي برزت في اقصى الشمال الغربي من الاراضي الاميركية في ولاية اوريغون باقدام مجموعة مسلحة “متمرسة” باحتلال والسيطرة على مباني حكومية تعود لمحمية للحياة البرية، واستقدامها اعوان ومسلحين من مناطق اخرى كنوع من العصيان المدني.

الميليشيات اتخذت قرارها على خلفية رفضها الامتثال لقرار قضائي بسجن اثنين من كبار مربي الماشية، دوايت هاموند ونجله، لاضرامهما النار في اراضي مملوكة للدولة، قبل بضع سنوات. اضفت ادارة الرئيس اوباما على الحادثة بعدا سياسيا ووصفته بعمل ارهابي مما يتأتى عليه اصدار احكام بالسجن لمدة طويلة بحق الفاعليْن؛ ونزل القاضي الفيدرالي عند رغبة او ضغوط المجموعات المتطرفة واصدر احكاما مخففة بالسجن لمدة خمس سنوات ، مما دفع الحكومة الاميركية اللجوء الى استئناف القرار.

في هذا السياق، تسابق عدد من المسلحين المؤيدين لنزعات تحدي الحكومة الاميركية للتطوع بحماية مربي الماشية ان ابقوا على قرارهم برفض احكام السجن. وجاءت المفاجأة من قبل المتهميْن باعلان قبولهما الامتثال لقرار السجن، مما شكل حرجا للمسلحين الذين ابقوا على قرارهم بالتحدي.

وعليه، اقدم نحو 20 من اعضاء الميليشيات المسلحة على “احتلال” مقر المحمية البرية، مالهور، الذي كان خاليا من الموظفين، ولم يواجهوا اي مقاومة. منطقة المحمية تمنع رسميا التصرف بها واستثمارها لاي هدف كان باستثناء حماية الحياة البرية؛ بخلاف المزارع التي تسببت في المواجهة مع كلايفن بندي، 2014، التي كانت مصنفة لرعاية الابقار والمواشي مقابل مردود مالي للدولة التي “تؤجر الاراضي باثمان متدنية لاغراض الماشية والتنقيب،” كما ورد في ادبيات “هيئة الخدمات البحثية للكونغرس.”

بخلاف تحركات الميلشيات السابقة ضد منشآت الدولة، لقيت الحملة الاخيرة تنديدا من قبل مجموعات مسلحة اخرى جنبا الى جنب مع تنديد مرشحي الرئاسة الاميركية من الحزبين؛ فضلا عن معارضة وتنديد عائلتي العنصرين اللذين يقضيان حكم السجن.

المجموعة المحتلة يتزعمها آمن بندي، نجل راعي الماشية الشهير كلايفن بندي ابان تصديه للاجهزة الأمنية المركزية عام 2014 في ولاية نيفادا. واعرب بندي الابن عن جهوزيته واقرانه لاحتلال الموقع “لسنوات عدة ان تطلب الأمر.”

من بين الاسماء المعروفة للأجهزة الاميركية دوايت هاموند الذي برز على المسرح الحكومي منذ بداية عقد التسعينيات من القرن المنصرم، واقدامه على التعدي على الممتلكات الحكومية من اراضي وانتهاك قوانين حماية البيئة السارية، واطلاقه تهديدات بالقتل ضد موظفي الدولة العاملين في المحميات البرية. آنذاك، لم يتعرض هاموند لاي عقوبة او ملاحقة من قبل ادارة الرئيس كلينتون، كما كان يفترض، ومذى بتجنيد اعوان له ورفد ميلشياته بالمسلحين “ومضايقة موظفي الدولة” دون رادع.

       اخفاق الدولة المركزية باتخاذ اجراءات فورية ضد منتهكي القوانين في الحالة الراهنة لا يجوز تفسيره بعدم رغبتها بذلك او احجامها عن الصدام مع الميليشيات؛ ويرجح انها آثرت التروي باعتمادها على عامل الاحوال الجوية شديد القسوة في مناطق جبال الروكي بولاية اوريغون، الذي سيكفل اخلاء الميليشيات للمحمية دون عناء، لا سيما وان فرص البقاء على الحياة تتراجع بسرعة امام فقدان وسائل التدفئة والموارد الغذائية، التي تمثلت باطلاق المجموعات المسيطرة نداءات استغاثة بتزويدها بمواد غذائية مهما كانت طبيعتها.

       الميليشيات المسلحة العائدة للمجموعات العنصرية من البيض، بشكل خاص، تعتبر ان من حقها “احتلال” المنشآت الحكومية كوسيلة من وسائل العصيان المدني، والتي تزداد وتيرتها طردا مع تنامي قوة الميليشيات.

       في زمن تنامي مظاهرات المعادية للحرب الاميركية على فييتنام، سجل في احدى الحوادث احتلال طلاب جامعيين لمركز تجنيد وتدريب في حرم جامعة كولومبيا، عام 1970، شارك فيه وزير العدل السابق في عهد اوباما، اريك هولدر، استمر لمدة خمسة ايام، بادرت اليه منظمة الطلاب السود التي الصقت بها تهمة الاحتلال المسلح. وطالبت قيادات المنظمة ادارة الجامعة باطلاق اسم المناضل الاسود الذي اغتالته المؤسسة الاميركية الحاكمة، مالكولم اكس، تكريما له.

       تعاظمت في الآونة الاخيرة نزعات التحدي بين الادارة الاميركية بشكل خاص وشركات تصنيع السلاح على خلفية “حق المواطن حمل السلاح،” كما ينص عليه الدستور؛ بل صعدت بعض الولايات في الجنوب الاميركي مستويات تحديها للدولة بتشريع حمل السلاح في الاماكن العامة، امعانا في معارضة توجهات الادارة بتقنين السلاح.

       اقلية من كبار المزارعين ورعاة الماشية اتخذوا مواقف متباينة مع بندي وهاموند، وادانوا احتلال المنشآت الحكومية، من ابرزهم مايك فاندربوغ، رئيس “ميليشيا ثري بيرسنت،” وايد قرار الحكومة التي تمتلك “الحق المطلق لانهاء الوضع دون اللجوء للعنف .. والخشية من وقوع ضحايا، مما سيسبب باندلاع حريق على المستوى الوطني العام.”

       تتداخل عوامل الصراع مع الدولة المركزية، ويسعى البعض لاقحام مسألة حق اقتناء السلاح كقضية مركزية. وحين اعلن الرئيس اوباما مطلع العام الجديد عن اجراءات رئاسية تتخذ مفعول القانون للحد من انتشار السلاح، اقدم حاكم ولاية تكساس، غريغ آبوت، على تحدي الرئيس ان كان لديه الجرأة لمصادرة سلاحه الفردي؛ واستطاع استصدار قانون في ذات اليوم يسمح بحمل السلاح في الاماكن العامة، امعانا في التحدي.

       استنادا الى المعطيات السابقة المتعلقة بتنامي حوادث تحدي السلطات المركزية، لدوافع متعددة، باستطاعتنا اللقول ان العام الجديد سيشهد مزيدا من تلك المشاهد والاضطرابات المدنية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى