أين الإنسان في تكنولوجيا العصر؟!.
فاطمة طفيلي
يغلب التفوق التكنولوجي في زمننا الراهن على ما عداه، ويسير العالم في صراع محموم على استعراض أدواته وعناوينه في هذا الإطار دون أي اكتراث بما تفعله الآلة بنا كمخلوقات تميزها الإنسانية عما عداها من كائنات حية.
تتوسع الهوة بين التفوق التكنولوجي بكل أشكاله والمفهوم الاساس الذي من أجله يسعى البشر الى تأمين احتياجاتهم وخدماتهم بالشكل الذي يخدم مصالحهم ويعالج أزماتهم ومشاكلهم وفقا للشرائع والقوانين التي سنتها البشرية كقواعد للعيش والارتقاء ببني البشر، وفي إطارها تتكرس العلوم والمعارف في خدمة الانسان وتطوره وراحته واستمراره، فأين نحن اليوم من هذه العناوين، التي لم تعد تعدو كونها كليشيهات ممجوجة ومستهلكة أمام هول ما نعيشه من توحش وهمجية واستلاب للآلة التي تحولت إلى أداة قتل وإفناء على المستويين الأخلاقي والجسدي.
شئنا أم أبينا، فقد أصبحنا محكومين للتنكنولوجيا التي اخترعناها، وما زلنا نجهد في تطويرها وابتداع أشكالها الخلابة، التي تفتن عقولنا فيما تفتك بها وبالانسان فينا، لتجعله بذاته مجرد رقم في روزنامة البرمجيات الحديثة المتنامية، فأين الإنسان في ما يبتكر، وماذا حل بالبشرية وسننها وقوانينها، ونحن نلهث في ركاب ما ادعينا انها أدوات مكرسة لخدمتنا ومن أجل رفاهنا؟.
مستلبون تتحكم بنا أدوات العصر، وتطغى على يومياتنا بدءً من هواتفنا التي لم نعد قادرين على مفارقتها، وقد أصبحت تفوقنا ذكاء وقدرة. وتبقى الطامة الكبرى عندما تتعطل أو يصيبها خلل، فترانا نقف عاجزين حتى عن استذكار أرقام هواتفنا، فكيف بما تبقى من أرقام كانت بالقدر الكبير جزءً من ذاكرة تختزن الكثير من المعلومات، التي لا تحتاج الى كبير عناء لاستعادتها، ولا يعوزها مشغل البحث، الذي لم نعد مؤهلين للعمل من دونه في أدق تفاصل حياتنا اليومية، بعدما استسهلنا حفظها في ذاكرة آلة قد تخذلنا في أي وقت، وتتركنا مشلولي القدرة كما العقول.
التواصل الاجتماعي واحد من عناوين العصر، فيما التواصل الانساني يكاد يكون معدوما حتى في نطاقه الضيق، والسمة الأبرز لتلك المواقع الكثير الكثير من عناوين الانقسام والعصبيات على أنواعها، أحقاد وكراهية تفرق بين البشر، مع النذر القليل مما نفتقده من الاخلاق والثقافة والادب!.
ضعف الذاكرة واحدة من مشكلات العصر، وهي لم تعد مؤشرا معتمدا لتقدمنا بالسن أو إنذارا صحيحا ينبهنا الى بداية إصابتنا بما يسمى أمراض الشيخوخة، ومن بين ضحاياها الأطفال والمراهقون. وترانا نبحث مستعينين بالآلة ذاتها، عن أساليب تعيد تشغيل ذاكرة خاوية حتى من العواطف والمشاعر الانسانية، فالعائلة داخل البيت الواحد تتواصل من خلال الهواتف، وتكرس خدماته لتبادل المشاعر المستنسخة هي أيضا، والمنقولة عن مواقع مخصصة لمدنا بالنصوص الجاهزة لكل مناسباتنا.
لم تعد اللقاءات العائلية الدافئة واردة في قاموس العصر، الذي جعلنا كائنات غارقة في عوالم الافتراض الموحشة والخالية من الروح والمشاعر مع تعدد الأشكال والادوات التي تعمل في عقولنا إضعافا وتسطيحا، مع ما يستدعيه كل ذلك من علل وعقد ومشاكل نفسية لم تكن واردة في قواميس آبائنا وأجدادنا، حين كان العقل البشري هو الأساس والمرجع، ولنا في كبارنا المعمرين أمثلة حية، يروون حكاياتهم ويحفظون القصص والأشعار والأقوال عن ظهر قلب، يستعيدونها وكأنها حدثت بالأمس، فيما نعجز عن استذكار ما فعلناه قبل ساعات في غمرة لهاثنا اليومي خلف آلات.
محكومون اليوم للسيارة فيما كان المشي هو الوسيلة الأبرز للوصول، والطبيعة ميدان رحب للتنزه واستنشاق الهواء النظيف والتمتع بمناظرها وما فيها من عجائب لم ترق التكنولوجيا رغم كل هذا القدر من التطور الى كنه كلّ اسرارها، وتجدنا اليوم نحولها الى غابات باطون عابقة بالملوثات والسموم القاتلة. محكومون للمصعد وننسى أن للدرج مكانته في أبنية تتحول الى علب أشبه بالسجون الانفرادية لكائنات لا تتعارف ولا تتلاقى حتى داخل البيت الواحد. محكومون للكومبيوتر واللابتوب نتأبطه وعيوننا مشتتة بينه وبين الشاشة الصغيرة نقلب واجهاتها دون أن نفقه منها شيئا، وهي الأخرى تنزلق الى المسار ذاته، نماذج مكررة وتنافس في استعراض مشاهد القتل والدماء والدمار، الذي يغزو العالم ويفتك بالإنسانية. فمن يضع حدا لهذا الانحدار المخيف، ومتى نستفيق ونستعيد وظائف لعقول نكاد نفقدها في غمرة الأحداث والصراعات – بحسب نظرية داروين للتطور والارتقاء- وكلّها باسم الإنسان؟!.
لسنا في معرض الدعوة لرفض التكنولوجيا وأدواتها، ولكننا نربأ بالإنسان، الذي ميزه الخالق عما عداه بعقله وقدراته، بعواطفه وأحاسيسه، بما يختزنه من مشاعر لو قدر لها ان تنمو لغمرت العالم كله، وأبعدت عنه الخوف والفقر والجوع وما يشبه الإبادة المنظمة في زمن التوحش السائد، نربأ بالإنسان أن يتحول الى مجرد آلة أو رقم لا يقدم ولا يؤخر في زمن تكنولوجيا العصر، التي نكتفي بوجوهها السلبية دون تفعيل ما يمكن أن تقدمه من إيجابيات وخدمات.
أن نستعيد زمام المبادرة ونتحكم بالتكنولوجيا وآلاتها ونكرسّها في سبيل خدمتنا بات ضرورة أكثر من ملحة، واستعادة الإرادات والمبادرة إيجابا هو المطلوب وليس الانقياد والاستسلام، والأمر سيان سواء اتجاه التكنولوجيا أو أي عنوان آخر، ولنعد أحرارا، لأن الاستعباد واحد مهما تعددت وجوهه وأساليبه، فهل نفعل؟!…