جديد العام 2016 قديم: الحرب الأهلية مستمرّة… د. عصام نعمان
لا جديد يحمله العام الجديد الى عالم العرب بل المزيد من الشيء نفسه: الحرب الأهلية. هذه حال العرب، قولاً وفعلاً، مذّ وضعت الحرب العراقية – الإيرانية أوزارها العام 1988. قبلها عانى العرب، كما جيرانهم، حروباً بين دولهم. بعدها أصبحت الحروب ليس بين دولهم بل فيها.
المؤرخ الصهيوني المعروف برنارد لويس كان نبّه قادة الولايات المتحدة و»إسرائيل» الى خاصيّة التعدّدية الاثنية والقبلية والدينية والمذهبية التي تنطوي عليها بلاد العرب وتنغرز عميقاً في نسيجها الاجتماعي، فكان أن اقتنع «المحافظون الجدد»، الذين سيطروا على مواقع حساسة في إدارة جورج بوش الابن، بجدوى استغلالها وسيلةً للتفريق والتفكيك والتفتيت.
قبل برنارد لويس، كان المؤرخ المصري شارل عيساوي، قد لاحظ انّ النسيج الاجتماعي في بلاد العرب تعرّض على مرّ التاريخ لتدخلات قوى خارجية أمعنت فيه تمزيقاً وتجزيئاً على نحوٍ أنتج ظاهرة لافتة هي خضوع العرب على امتداد ألف سنة من تاريخهم الى سلطة حكام أجانب.
مع اندلاع اضطرابات ما يُسمّى «الربيع العربي» العام 2011 وصعود حركات «الإسلام السياسي»، ولا سيما تنظيمات الإرهاب التكفيري، انهار النظام العربي وتهاوت معه الدولة القُطرية في بلدانٍ تحوّلت اضطراباتها الداخلية حروباً أهلية. أليست هذه حال سورية والعراق والسودان وليبيا واليمن؟ أليست أقطار أخرى كلبنان وتونس والجزائر والبحرين ومصر مهدّدة أيضاً بأن تتحوّل اضطراباتها الأمنية حروباً أهلية؟
هكذا، يجد العرب أنفسهم اليوم، ولا سيما عرب المشرق ووادي النيل، أمام ثلاثة تحديات بالغة الخطورة: التحدّي الصهيوني العنصري، والتحدّي الإرهابي التكفيري، وتحدّي تداعي الدولة القُطرية وتواصل الحروب الأهلية.
الى ذلك، رافقت الحروب الأهلية وزادتها اضطراباً صراعاتٌ جيوسياسية واقتصادية بين الولايات المتحدة وروسيا من جهة، ومن جهة أخرى بين كلّ منهما وتركيا وإيران، ناهيك عن «إسرائيل» التي حاولت وتحاول الإفادة من الاشتباكات الإقليمية المستعرة لاستكمال مشروعها التوسعي الاستيطاني.
يبدو أنّ احتدام هذه الحروب الأهلية والصراعات الإقليمية أرهق اللاعبين المشاركين فيها وحمَلَ صغارهم، كما الكبار الذين يدعمون بعضهم ويستنزفون بعضهم الآخر، على البحث عن مخارج منها. في هذا السياق، جرت اتصالات ونُظّمت مؤتمرات للتوفيق بين أطراف المعارضة السورية، الكثيرة التوالد والتصارع، بغية تأليف وفد موحّد يمثّلها في مفاوضات مرتقبة تجري هذه السنة في «جنيف ــــ 3».
من الواضح ان «جنيف ــــ 3» في حال انعقاده سيكون معنيّاً، بالدرجة الأولى، بمواجهة تحدّي الإرهاب لكونه يهدّد مصائر اللاعبين الصغار كما مصالح اللاعبين الكبار. لكنه لن يكون معنيّاً بتاتاً بمعالجة التحدّي الصهيوني العنصري التوسعي، كما لن يتصدّى لتحدّي تداعي الدولة القطرية، إلاّ في أضيق الحدود، كالنواحي الإجرائية المطلوبة لوقف إطلاق النار وإقرار الترتيبات اللازمة لإحياء الإدارات والأجهزة الحكومية المسؤولة عن الأمن وتأمين المتطلبات الحياتية الأولية للناس.
لا غلوّ في القول إنّ غياب الدولة أو تغييبها عامل رئيس في هزائم العرب العسكرية وقصورهم السياسي وتخلّفهم الاقتصادي والاجتماعي وفي تواصل حروبهم الأهلية وانحدارهم الى حال الانحطاط المزري. فهل يجوز، والحال هذه، أن يتركوا للقوى الأجنبية أمرَ تقرير مصيرهم ومستقبلهم، كما فعلوا سحابةَ قرون عشرة في ماضيهم غير التليد؟ ثم، هل يجوز أن تبقى القوى الوطنية الحيّة غائبة أو مغيّبة أو مستنكفة عن الاضطلاع بمسؤوليتها التاريخية في تدارس أزمتنا المزمنة وحروبنا الأهلية المتواصلة، بغية اجتراح الحلول والمناهج والآليات والمؤسسات الكفيلة بإخراجنا منها ووضع مجتمعاتنا على طريق النهوض والبناء والتنمية؟
ثمّة حاجة وطنية استراتيجية الى أن تبادر القوى الحيّة، أفراداً وجماعات، الى الانخراط الجدّي، العميق والمتواصل في مسارٍ فكري وإجرائي متكامل، في كلّ قُطر، كما على صعيد الأمة، من أجل اجتراح نهجٍ وحركة نهضويين يكفلان إخراج العرب من انحطاطهم بمباشرة مهمة بناء الدولة التي ما زالت غائبة أو مغيّبة في كلّ قطرٍ من أقطارهم، دولة مدنية ديمقراطية على أساس حكم القانون والعدالة والتنمية.
لا نهاية للحروب الأهلية، ولا أمن، ولا استقرار، ولا تنمية، ولا ازدهار، ولا اكتناه للعلم والتكنولوجيا، ولا خلق وإبداع، وبالتالي لا عدالة وطمأنينة خارج اجتماع سياسي تؤطره وتحميه وترتقي به دولة مدنية ديمقراطية مبنيّة على أساس المواطنة والمساواة أمام القانون وفي الفرص.
القوى الحيّة مدعوةٌ بلا إبطاء، محلياً وعلى مستوى الأمة، الى مباشرة النهوض بمهامها الاستراتيجية السالفة الذكر، والخروج الى الرأي العام، وخصوصاً الى مجتمع أهل القدرات والكفاءات والخبرات، بحلولٍ ومناهج وآليات ومؤسسات كفيلة بوضعنا على طريق النهوض والبناء والإنجاز.
الى ذلك، لن يفوت أهل النخبة الملتزمة في القوى الحيّة التنبّه الى خمس مهام استراتيجية تتوجّب مراعاتها، وبالتالي تحقيقها تدريجياً في سياق المشروع النهضوي:
أولاها، اعتماد الديمقراطية في إدارة التنوّع الاجتماعي واعتبار الوحدة الوطنية داخل الأقطار العربية القاعدة الأساس في مواجهة مخططات التفكيك والتفتيت والتقسيم والشقاق المذهبي.
ثانيتها، بناءُ كتلة تاريخية في كلّ قطر وعلى مستوى الأمة من جماهير وكوادر التيارات والقوى الحيّة صاحبة المصلحة في إقامة الدولة المدنية الديمقراطية شرطٌ لازم لمواجهة التحدّي الصهيوني العنصري والتحدّي الإرهابي التكفيري ولتحقيق المشروع النهضوي على الصعيدين القطري والعربي.
ثالثتها، اعتبار مواجهة «إسرائيل» وحلفائها الدوليّين والاقليميّين والمحليين ضرورة سياسية واقتصادية وحضارية لضمان هزيمة القوى الخارجية العدوانية واستكمال الاستقلال الوطني والقومي وتعزيز الإرادة الشعبية.
رابعتها، ضرورة تكامل الأمة على المدى الطويل في دولة اتحادية فدرالية أو كونفدرالية لتأمين متطلبات البقاء والنماء وتوفير الشروط السياسية والاقتصادية للتعايش والمنافسة والتقدّم في عصر التكتلات القارية، على ان تكون البداية إقامة تكتل اقتصادي عربي، أو سوق عربية مشتركة.
خامستها، مباشرة التجدّد الحضاري بنقد ثقافتنا الماضوية والانفتاح على ثقافة العقل والحرية والديمقراطية والعلم والتنمية.
آمل أن تُسهم هذه العجالة في توليد مناقشة موسعة في الموضوع.
(البناء)