مواجهة العنف في عالم متحوّل جورج قرم
في الصراع بين الجبّارين الدوليين، كانت العقيدة الشيوعية تنتشر بسرعة في الدول الحديثة العهد في استقلالها، أي في العديد من الدول المنتمية الى «مجموعة دول عدم الانحياز»، خاصة في أميركا اللاتينية والشرق الأوسط ودول شرق آسيا. ولا بدّ هنا من استذكار شخصيتين عربيتين لعبتا دوراً كبيراً في الجهود الرامية الى تعاضد العالم الثالث للتحرر من العلاقات الاقتصادية والسياسية غير المتكافئة بينها وبين الجبّارين الدوليين أي الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي، وهما جمال عبد الناصر في مصر والمهدي بن بركة، النقابي المغربي المناضل، الذي تمّ اغتياله بعد اختطافه خلال تجوّله في شوارع مدينة باريس. كما أن «دول عدم الانحياز» هذه تمكنّت العام 1975 في العاشر من تشرين الثاني من إقناع عدد كبير من دول العالم الثالث وبعض الدول الغربية بتبنّي قرار (رقمه 3379) من الجمعية العامة للأمم المتحدة تدين الصهيونية كعقيدة عنصرية.
وأمام هذه التطورات، ومن أجل سدّ انتشار الأفكار الثورية الاشتراكية الطابع في مجتمعات العالم الثالث، قامت الدوائر الحاكمة في الولايات المتحدة بإطلاق حملات إعلامية وأكاديمية حول ضرورة عودة الدين في الحياة الدولية وحياة المجتمعات. وهي حملة قد ترافقت مع حركة فلسفية أوروبية ـ أميركية نشطة أعادت النظر في مسلمات مبادئ فلسفة الأنوار التحررية، متهمة إياها بأنها سببت الثورة الفرنسية والثورات اللاحقة البلشفية والصينية والفييتنامية وكانت جميعها بحسب هذه الرؤية منبع البطش والإرهاب والعنف. وقد اشتهر في هذه الحركة كل من المؤرخ الفرنسي فرانسوا فوريه (François Furet) والمؤرخ الألماني أرنست نولتي (Ernest Nolte)، بالإضافة الى الفيلسوف الألماني الكبير ليو شتراوس (Leo Strauss) الذي ادّعى ان الأنظمة العلمانية الديموقراطية الطابع ليست أفضل من الأنظمة المبنية على الشرائع الدينية، بل بالعكس قد تكون أسوأ منها. فهي، أي الأنظمة العلمانية، أنتجت كلاً من النظام البلشّفي والنظام النازي. وعلى هذه الأرضية الفلسفية، نادى بعض المستشرقين المتخصصين في الشؤون الإسلامية بضرورة إعادة أسلمة المجتمعات العربية التي تمّ إخضاعها الى أنظمة علمانية ديكتاتورية مخالفة للتعاليم الدينية الإسلامية، وكذلك الأمر بالنسبة الى ضرورة إعادة موقع الكنيسة الكاثوليكية في بولندا.
في هذا المناخ، تمّ تدريب عشرات الآلاف من الشبان العرب والمسلمين من جنسيات أخرى لإرسالهم لقتال الجيش السوفياتي الغازي للأراضي الأفغانية، تحت راية الجهاد الديني لمقاتلة «الملحدين» الروس. وفي المناخ ذاته تلوّنت دينياً الثورة الشعبية الإيرانية بإقامة نظام «جمهوري إسلامي» العام 1979 تحت وصاية رجال الدين، وقد أشاد كبير الفلاسفة الفرنسيين ميشال فوكو (Michel Foucault) بهذه الثورة عند قيامها كونها ثورة لجأت الى العنصر الديني الروحي، وبالتالي وبحسب رأيه فتحت آفاقا جديدة في ديناميكية التغيير السياسي ـ الاجتماعي العالمي نحو الأفضل. وفي اللحظة التاريخية نفسها قامت في الدول العربية ما سُمّي بـ «الصحوة الإسلامية» تعويضاً عن فشل القومية العربية المدنية الطابع، واستبدالاً لها، كعقيدة جامعة بين العرب وسائر المسلمين في العالم. وهذا أدّى بطبيعة الحال الى انتشار أنواع مختلفة من الإسلام السياسي في كل المجتمعات العربية والإسلامية وصعود مظاهر التديّن فيها. والجدير بالملاحظة هنا أن بعض المفكرين العرب ذوي الاتجاه القومي العربي الاشتراكي السابق قد تركوا قناعتهم التقدمية لينضمّوا الى فلسفة وثقافة المزايا المفترضة لظاهرة عودة الدين في الحياة السياسية داخل الدول وفي المجال الدولي، وكذلك الآراء المحافظة الجديدة الصاعدة على أنقاض التقدمية السابقة، وذلك على غرار ما فعله مفكرّون يساريون وثوريون أوروبيون، خاصة بعد انهيار الاتحاد السوفياتي.
بدورها سمحت هذه المعمعة الفكرية العميقة التي هزّت أسس الإنسانوية الحديثة المبنية على مبادئ فلسفة الأنوار ورفض العنصرية والدعوة الى المساواة بين البشر، بأن يطرح هنتنغتون مقولة «صدام الحضارات» التي لاقت رواجاً كبيراً في مثل هذا المناخ من الانقلاب الثقافي. وقد تمّت تسمية هذه الأطروحة بأنها تعكس مشاعر ما بعد الحداثة (Post moderne) والعودة الى الانجذاب نحو العالم الديني. كما تمّ الإدعاء في الدراسات الأكاديمية الأميركية بأن العودة الى الهويات الجوهرية، وبشكل خاص الدينية والإتنية الطابع، هي نتاج مرحلة ما بعد الاستعمار (Post coloniale)، حيث أصبحت الشعوب التي عانت من اضطهاد الهوية تتمكّن من استعادة شخصيتها الهويتية الأساسية، ما اعتبر تحرراً كبيراً من الظلم الثقافي (والديني) الذي لحق بها طوال فترة الاستعمار والأنظمة السياسية الاستقلالية التي اعتمدت عادات وثقافة المستعمر الغربي. وعلى أساس مثل هذه الحجج الملتبسة تعرّضت قواعد الانسانوية المنبثقة من فلسفة الأنوار الأوروبية والتي كانت قد انتشرت عالمياً، الى حملة انتقادات شديدة على أساس انها قواعد وقيم لها الطابع المرتكز ذاتياً على مصالح الدول الأوروبية ذات التاريخ الاستعماري غير المشرّف. وقد أصبحت الدراسات حول الثقافات تأخذ منحى جوهرانياً جامداً، كأن البنية العقلية للشعوب هي ثابتة وغير قابلة للتغيير أو التأثر بالتطور البشري العام.
ومما زاد من المعمعة الفكرية التي نحن فيها، الالتباس المستمر بين مفهوم الانتماء القومي والانتماء الاتني والانتماء الديني وهوية الثقافات. اذ أصبحت هذه المفاهيم المختلفة مترادفات تستعمل من دون أي تفريق أو دقة، وكأن لها المعنى والمحتوى نفسه. هذا بالإضافة الى التدهور الكبير في العلاقات بين السنة والشيعة ومذاهب إسلامية أخرى، وقد استغلت هذا التدهور القوى النافذة سياسياً، محلياً وإقليمياً ودولياً.
لقد بتنا نعيش اليوم في ظل ازدهار ما سماه الروائي الكبير أمين معلوف «الهويات القاتلة»، التي صارت تتجسّد في عمليات إرهابية متزايدة، لا تتردّد في الكثير منها رفع راية الدين جزافاً لتبرير عنفها الكريه. علماً أن المشكلة الكبيرة تتمثل في استغلال الدين في مشاريع هيمنة سياسية واقتصادية من قبل الحكام. صحيح أن اللُحمة الدينية بين أفراد مجموعة بشرية مقهورة ومنقادة بشكل تعسفي من قبل حكام مجموعة بشرية أخرى يمكن استعمالها بشكل طبيعي ضد غازٍ أو مستعمر للتخلّص منه، فيعبّر عن الحالة النزاعية والعنفية بتعابير دينية، بينما الواقع هو اضطهاد دنيوي لمصلحة بعض الحكام. هذا مع الإشارة إلى ان مبادئ الإنسانوية الحديثة أكدّت حق الشعوب في تقرير مصيرها والتخلص من الاحتلال والاستعمار. لكن، كما ذكرنا، فقد تلاقت اتجاهات فلسفية غربية ناقدة للحداثة العلمانية التنويرية مع مشاريع لتوظيف الدين في المعترك الجيوسياسي الدولي ابتداءً من حرب أفغانستان الأولى العام 1979. فشهدت الثقافة العالمية انقلاباً خطيراً أدى الى موجات عنف معقدة وملتبسة الطابع، حيث تمّ رفع الشعارات الدينية والمذهبية والعنصرية.
أمام هذا المشهد الأليم ينبغي أن نبادر الى مسعى كبير لإعادة تقويم مسار الثقافة العالمية وإعادة بذل الجهود لمكافحة كل العنصريات، أكانت عرقية الطابع أو دينية ومذهبية أو ثقافية للتندّيد، بشكل خاص، بزج الدين والمذاهب الدينية في الصراعات الكبرى الدولية والإقليمية والمحلية.
وهذا ما يتطلّب أن تستنكف بعض الدول عن الادعاء بأنها تمثل وتدافع عن مصالح مؤمنين بديانات معينة على الصعيد العالمي. وربما المثال الصارخ على ذلك هو ادعاء الكيان الإسرائيلي بأنه هو دولة اليهود عالمياً، ولذا له الحق بأن يستعمر ما تبقى من الأرض الفلسطينية ويضطهد الشعب العربي الفلسطيني المعزول. ومما سهّل استمرار هذا الكيان في استعباد الشعب الفلسطيني، وإبداء العداء العسكري لمن يناصره، إلغاء قرار الجمعية العمومية للأمم المتحدة العائد الى العام 1975 وبالقرار 86/46 المتخذ العام 1991 إثر تدهور الأوضاع في العالم العربي بعد غزو الكويت من قبل العراق. وهذا ما يسهّل مساندة العديد من الدول لتصرفات الكيان الإسرائيلي العنصري الطابع نظراً للإقرار بأن هذا الكيان يهودي بشكل حصري. ولنتذكر هنا كم كانت فعّالة في حالة النظام العنصري في جنوب افريقيا المواقف الجريئة والعقوبات التي اتخذتها ضده معظم الدول، وهذا ما أدى الى سقوط هذا النظام، على خلاف ما يحصل اليوم في حالة القضية الفلسطينية.
وعلينا في المحصلة أن نواجه بجرأة وصدق ما آلت اليه أحوال العالم من تدهور خطير في القواعد الأخلاقية الأساسية وانحرافها في مناطق عديدة من العالم وبشكل خاص في منطقتنا العربية والشرق أوسطية، حيث دخلنا في حالة التدمير الذاتي المؤجّج من قوى خارجية، وحيث أصبح لا يُطاق توظيف الدين والمذاهب الدينية في الصراعات حول الهيمنة على المنطقة.
إن الثقافة في عالمنا الحاضر المعولم لا يمكن إلاّ أن تكون ثقافة إنسانوية جامعة، وإلاّ استمر تدهور الأوضاع العسكرية وزادت العمليات الإرهابية وغابت قواعد الأخلاق وبات تراث الشعوب والحضارات في أنحاء المعمورة كافة مُعرَّضاً للضياع.
] جانب من محاضرة أُلقيت في احتفالية الذكرى السبعين لتأسيس منظمة الأمم المتحدة للتربية والتعليم والثقافة («أونيسكو»)