البواب التركي عنوان السقوط الأخلاقي للبناية الأوروبية وسيم ابراهيم
مرت سبعون سنة قيل إنّها عالجت الطبائع البغيضة لأوروبا، لكنّها تعود لتطلّ الآن، بلا خجل، بالملامح ذاتها فوق مكياج سياسيّ معاصر، كما لو أنّها لم تتحرّك متراً أخلاقياً واحداً. إنّها أسوأ «أزمة لاجئين» تواجه التكتّل منذ الحرب العالميّة الثانية. تتكرّر تلك اللازمة، في حين يقتبس الزمن الملامح العريضة لتلك الحقبة: كراهية الأجانب تصعد إلى السماء، العنصريّة مبرّرة بفم قادة دول، اللاجئون والأجانب المسلمون يحملون كل الأوزار في معارك السياسة الداخلية، تراجع اقتصادي يتحرّك في العمق، فيما الاتحاد الأوروبي ليس مهدداً بالحرب، هذه المرة، لكن بالتفكّك.
حصل كل شيء بسرعة كبيرة، وبلا مقدّمات منذرة. كان سيل اللجوء محبوساً، ينفذ بعضه إلى سواحل ليبيا ثم بحراً إلى أوروبا، بصعوبة ومشقّة وبمخاطر موت عالية. لكن هذا الصيف اختلف كلّ شيء. كأنّ السيل وجد ثغرة أكيدة، فبات يتدفّق منها بلا توقّف. أخبار العثور على مَسرب النجاة انتشرت سريعاً؛ طريق البلقان مفتوح. بدأ الأمر بمئات، ليصل في الذروة إلى نحو عشرة آلاف يومياً، يعبرون بقوارب المطاط من البرّ التركي إلى الجزر اليونانيّة.
لا أحدَ يعرف، على وجه الدقّة، إلى أين تتّجه القضية. هناك تفاوت وتعقيد الحسابات السياسيّة الداخليّة لدول الاتحاد الأوروبي، ومن جهة أخرى معضلة إيجاد صفقة فعّالة مع الأتراك. ألمانيا باتت أكثر المعنيّين، بعدما صارت وجهة اللجوء الأولى، لذلك تريد إيجاد حلول عاجلة. دول أوروبية أخرى تعترض على قائمة العلاج المقترحة. لم ترد برلين إضاعة الوقت، فبادرت لتنظيم اجتماعات تنحصر بالدولة الراغبة بالدفع المباشر، لقاءَ صفقةٍ مع الأتراك.
في آخر قمة لزعماء الاتحاد الأوروبي، هذا الشهر، خرج مسؤول أوروبي رفيع المستوى بملاحظات متشائمة للغاية. كان قد اطّلع على خلاصة القمة المصغّرة لمجموعة «الراغبين» مع رئيس الوزراء التركي أحمد داود أوغلو. حينما سألته «السفير» عن أفق الحلول المطروحة ووتيرتها، قال بلهجة مسلّمة: «ليس هناك أفق يدعو للتفاؤل، لا أعتقد أنَّ هناك نهاية سعيدة لقضية اللاجئين».
لكنّ معسكر «الراغبين» يؤكّد السير في تطبيق خطّة عمل، تم الاتّفاق عليها مع أنقرة؟ يبتسم المسؤول الذي شارك في العديد من الاجتماعات مع الأتراك، ثم يقول بسخرية إنَّ «تحالف الراغبين غير راغب»، قبل أن يستطرد «على ماذا اتّفقوا مع تركيا؟ دعنا نرَ. أولاً، تقديم ثلاثة مليارات يورو مساعدات للأتراك في موضوع اللاجئين. ثلاثة مليارات كل سنة؟ انتهى الأمر ولا داعي لإكمال بقية بنود الخطة. من سيدفع ذلك، كيف سيدفع؟ لا أحد كان لديه جواب مقنع».
قبل أيّام تجاوز عدد من عبروا البحر المتوسط إلى أوروبا حاجز المليون إنسان، بحسب تقرير تفصيلي نشرته منظمة الهجرة الدولية. المعطيات ثبتت تحوّل طريق اللجوء مقارنة بالعام الماضي، وليس فقط لأنَّ العدد تضاعف أربع مرّات. ما يزيد على 800 ألف لاجئ وصلوا الجزر اليونانية، فيما وصل إيطاليا نحو 150 ألف لاجئ.
مفتاح الحل يعرفه الأوروبيون يقيناً. بعد مماطلة وتفاوض لأسابيع مع الأتراك، أعلنوا التوصّل إلى خطة عمل في تشرين الثاني الماضي. إنّها قائمة من التعهّدات المتبادلة، هدفها النهائي وقف تدفّقات اللاجئين. الأوروبّيون تعهّدوا أيضاً بدفع مفاوضات انضمام تركيا إلى التكتّل، مع تسريع العمل على منحها اتفاقية لسفر مواطنيها إلى أوروبا من دون تأشيرة دخول. الأتراك تعهّدوا بمحاربة شبكات التهريب، مع إقامة مراكز جديدة لاحتجاز اللاجئين (مراكز «استقبال»).
تكرّرت التحذيرات من السقوط الأخلاقي للأوروبيين، ليعيد تقرير أصدرته منظمة العفو الدولية هذا الشهر، تعليقاً على المساومة الجارية بين تركيا والاتحاد الأوروبي، اعتبرت أنَّ ما يجري بمثابة توكيل لأنقرة بمهمة «بوّاب أوروبا»، رغم أنّها ليست، حقوقياً وأخلاقياً، مؤهّلة لذلك. خلاصة التقرير حملها جون دالهوزن، مدير المنظمة في أوروبا والشرق الأقصى: «عبر إشراك تركيا باعتبارها بواباً لأوروبا في أزمة اللاجئين، فإنَّ الاتحاد الأوروبي أمام خطر تجاهل، والآن تشجيع انتهاكات خطيرة لحقوق الإنسان».
قامت تركيا بعرض قوّة لأيّام، بعد إعلان الصفقة المبدئيّة، فاعتقلت مئات اللاجئين لتقول لأوروبا إنّها قادرة على إنهاء القضية إذا قرّرت ذلك. برهنت، بنفسها، على أنَّها تحتجز مصير اللاجئين لتتاجر بورقتهم.
تقرير «أمنستي» أورد أمثلة، قابلها باحثو المنظمة الذين تعرّضوا للاعتقال والاحتجاز لشهرين، بعضهم واجه الضرب، ومنهم من جرى ترحيله إلى سوريا والعراق بعد إجبارهم على توقيع وثائق باللغة التركية. أحدهم رجل سوري عمره 40 سنة، قال للباحثين: «حينما يضعون سلسلة في يديك ورجليك، تشعر كأنّك عبد، كما لو أنّك لست إنساناً».
التحذيرات للأوروبيين تأتي بما أنّ ملياراتهم ستموّل ممارسة تلك الانتهاكات. لكن لا يبدو أنّهم لا يبالون. لم يقصدوا فعلاً أن يكونوا جمّالين، للقيم الإنسانيّة، والباب سيغلقونه بتوكيل مهمة حراسته لأنقرة. المطلوب إيقاف التدفقات بأيّ ثمن. الأكثر تشدداً لم يعودوا يحتاجون حتى لأغلفة ديبلوماسيّة. المجر أغلقت حدودها مع صربيا وكرواتيا، صدّت اللاجئين وقمعتهم بحملة عنيفة على مرأى العالم. رئيس وزرائها فيكتور أوروبان واصل بناءَ مبرّراته متحدّثاً عن «منطق ساحق» يقول إنَّ «كل الإرهابيين مهاجرون… مسلمون».
حتى الآن فشلت سيناريوهات الحلول المطروحة داخل البيت الأوروبي. كان الاتفاق الأوّلي تشجيع اليونان وإيطاليا على إقامة مراكز تجميع كبيرة للاجئين، وصولاً لإغلاق حدودهما منعاً لتدفقهم إلى الداخل الأوروبي، في مقابل اعتماد آلية دائمة لتقاسم اللاجئين وفق نظام الحصص. بمشقّة وصلت حدّ التصويت بالغالبية، لتجاوز المعارضة الشديدة لبعض الدول، تم اجتراح نظام الحصص المؤقّت، لكنّه لم يعمل. من بين 160 ألف واصلٍ جرى الاتفاق على توزيعهم، لم يُنقل سوى نحو 200 لاجئ من اليونان وإيطاليا.
خلف كواليس الاجتماعات، كان الهمس يدور حول غايات ألمانيا من «تشجيع» قدوم اللاجئين. هناك حسابات نقص اليد العاملة، الشيخوخة والهبوط السكاني، لكن أيضاً النهج الاستراتيجي لتقوية مشروع الاتحاد الأوربي. على جري ما حدث مع الأزمة الماليّة، حينما أجبرت حكومات عديدة على القبول بإنشاء سلطات ومؤسسات أوروبية مركزية للرقابة المالية، نظر البعض إلى قضية اللاجئين على أنّها فرصة لفرض مؤسسات مركزية في مستوى آخر. الشعار الذي لم يتوقّف عن التردّد في بروكسل كان «الحلّ هو أوروبا أكثر».
تلك الهواجس تجسّدت بشكل ملموس أخيراً. طرحت بروكسل خطّة لإنشاء وكالة أوروبية مشتركة للرقابة الحدوديّة، بوصفها حلاً لا غنى عنه لإنقاذ منطقة التنقل الحر (شنغن) من الانهيار الحتمي مع عودة الحدود. الخطة تمثّل أكبر خطوة مشتركة بعد إنشاء اليورو، بما أنَّ تطبيقها سينقل صلاحيات مراقبة الحدود من سيادة الدول إلى سلطة مركزية.
دعوات المؤسّسات الأوروبيّة لحلول جريئة، عاجلة، ترافقت بالتحذير من مخاطر صعود كبير لأحزاب اليمين المتطرّف على طول أوروبا. تشترك جميعها في المطالبة بالعودة إلى الدولة الوطنيّة، تحت شعار «الحلّ هو أوروبا أقلّ»، ولا تكف عن مهاجمة الوحدة الأوروبية وتحميلها مسؤولية التراجع الاقتصادي والعجز الأمني. استثمرت تلك الأحزاب تكرار الهجمات الإرهابية، وتواصل تهديداتها، على أكمل وجه: في بعض الدول، مثل السويد والنمسا والدنمارك وفرنسا، باتت تلك الأحزاب تنافس بقوة على السلطة.
تجري المقارنة مع الحرب العالمية الثانية، حينما تشرَّد ونزح ما يزيد على 12 مليون أوروبي. صور احتجاز القطارات المكتظة باللاجئين، قمع قوافلهم الراجلة، تحيل أيضاً على ذلك الزمن الأسود. بعض المعلّقين ذكّروا بريطانيا، مثلاً، بعار امتناعها عن استقبال اليهود الهاربين من المحرقة قبل وجود من يضمنهم مالياً. استعادوا وصول بعض القطارات إلى لندن، لكن فقط بعد قيام مصرفي كبير بدفع تأمين مالي للحكومة.
الآن، لا تخجل أحزاب اليمين من إطلاق دعوات التحريض العلني. آخر فصول الكراهية السوداء شهدتها جزيرة كورسيكا الفرنسية، في البحر المتوسط، حيث نظّم جمهور المتطرفين مسيرة اقتحام بربريّ لاقتلاع مراكز اللاجئين بمن فيها.
دولة الرفاه، مفخرة التقدّم الأوروبي، تتداعى مع تقليص الإنفاق على الخدمات والمساعدات الاجتماعية. الأزمة المالية جعلت خطط التقشف إلزاميّة لتصحيح عجز الموازنات. يعض المحللين يرى أنَّ ذلك هو ما يعتمل في عمق مركّب الانحدار الأخلاقي الأوروبي. منهم ستيفن سترابو، مدير أكاديمية «تارانس أتلانتيك». في مقال نشره مؤخراً، اعتبر أنَّ تصاعد شعور الخوف «من الآخر»، مسلمين ومهاجرين، يعكس «القلق الأكبر من تراجع أوروبا، وفقدان الثقة بالنفس»، قبل أن يضيف «إنه شعور يقف على النقيض من الشعور بالثقة الحضارية بالنفس والغرور الأوروبي خلال العهد الكولونيالي».
توقّعات المفوضية الأوروبية تقول إنَّ مستوى المعيشة في أوروبا، إجمالاً، سينخفض ليبلغ 60 في المئة من نظيره الأميركي بحلول 2023. كل هذه الملامح القاتمة تذكّر أيضاً بالحرب العالمية الثانية، سواء مرحلة الكساد الكبير التي سبقتها، أو المجتمع الألماني الممسوخ بفعل التدهور الاقتصادي؛ كان ذلك وقوداً مهماً للحزب النازي، قبل أن يقلب هتلر أوروبا فوق رؤوس سكّانها. حينها لم يكن هتلر ساحراً يقود نياماً، بل مع جمهور عريض من اليمين المتطرّف يهلّل لتفوق العرق الأبيض، يصفق لحملات التطهير والمحارق.
(السفير)