المزاج السياسي الأميركي في السنة الأخيرة لولاية أوباما زياد حافظ
يسود عند بعض المحلّلين والمراقبين العرب أن زمن التسويات الكبرى قد اقترب. والدليل على ذلك قرار مجلس الأمن الأخير رقم 2254 الذي تمّ التصويت عليه بالإجماع مشكّلا نقلة نوعية تجاه ما كان مطروحاً من مشاريع مشبوهة تحت الفصل السابع منذ بداية الأزمة في سورية وتصدّى لها آنذاك كل من روسيا والصين. البعض يعتبر أن الاتفاق الأخير هو ثمرة التفاهم الروسي الأميركي والذي يحدّد المسار للأمور في المرحلة المقبلة.
لنا قراءة مختلفة نوعاً ما. صحيح أن القرار الأممي يعكس توافقاً ظاهرياً بين الدولتين الكبريين الذي يحدّ من إمكانية إفشاله، وخاصة من قبل حلفاء الولايات المتحدة، من قبل غير الراضين عنه كالكيان الصهيوني وتركيا أردوغان وحكومة الرياض. لكن تلك القراءة لا تأخذ بعين الاعتبار المزاج السياسي الأميركي الداخلي بشكل عام، وخاصة في السنة الأخيرة لولاية أوباما. ولا نعوّل كثيراً على المقولات التقليدية ومفادها أن الرئيس الأميركي، أي رئيس أميركي، في السنة الأخيرة لولايته هو رئيس «تصريف أعمال» أو «بطة عرجاء» وإن كانت لا تخلو من شيء من الصحة فقد وقّع مؤخّراً قراراً للكونغرس الأميركي يفرض عقوبات على كل من يتعامل مصرفياً مع المقاومة في لبنان. وهو يعي كلّياً أن ذلك القرار قد ينسف الاستقرار الهش الأمني والاقتصادي في لبنان عبر تذكية مذهبية القطاع المصرفي واستقطاب الجماهير المتمذهبة وما يعود من نتائج سلبية على المشهد الاقتصادي اللبناني. أي بمعنى آخر يستطيع الرئيس الأميركي اتخاذ قرارات لها نتائج وخيمة قد تتعدّى الحدود اللبنانية. فنظرية «البطة العرجاء» قد تكون مبالغاً بها.
و لا نستثني طبيعة الخطاب السياسي ليس فقط في أروقة الكونغرس وعند المرشّحين للرئاسة سواء في الحزب الجمهوري أو الحزب الديمقراطي بل أيضاً، وهو أخطر، ما يصدر عن بعض مراكز الأبحاث المرموقة كمجلس العلاقات الخارجية ومجلّته «فورين أفيرز». ففي العدد الأخير على الموقع الإلكتروني مقال وقّعه اليوت كوهين واريك ادلمان وراي تقي مفاده أن الرئيس الأميركي المقبل عليه أن ينقض الاتفاق النووي مع الجمهورية الإسلامية في إيران والعمل على تغيير النظام فيها وقلب النظام والإطاحة بالرئيس السوري بشّار الأسد. التحضير للمرحلة المقبلة يمضي على قدم وساق رغم الرئيس الأميركي الحالي.
صحيح أن المقال لا يعكس وجهة نظر الإدارة الحالية وقد لا يعكس وجهة نظر الرئيس المقبل أيّاً كان. ولكنه يمثّل وجهة نظر سائدة تعني أن المعركة الداخلية لتغيير مفاعيل سياسة الرئيس أوباما ما زالت قائمة وأنها تحظى بتأييد كبير عند شرائح واسعة من النخب التي تملك وتسيطر على وسائل الإعلام وصنع الرأي في الولايات المتحدة. ولا بد من الإشارة إلى أن المحافظين الجدد متواجدون في أروقة المرشّحين الجمهوريين كمارك روبيو أو تد كروز على سبيل المثال، وحتى دونالد ترمب المتقدم في استطلاعات الرأي العام عند الناخب الجمهوري.
الخطورة واللافت للنظر في طرح كوهين وادلمان وتقي هو اعتبار الخطر الإرهابي للدولة الإسلامية محدوداً وأن الخطر الفعلي هو إيران وسورية. فإمكانيات الدولة الإسلامية لا تسمح لها بالقيام بأي عملية تهدّد المصالح الأميركية. ما لم يقولوه هو أنه حتى الآن لم تهدّد الدولة الإسلامية مصالح الولايات المتحدة في المنطقة، رغم كل الزعيق والصراخ الصادر في وسائل الإعلام. فالدور الوظيفي لاستنزاف خصوم الولايات المتحدة وحتى بعض حلفائها في المنطقة يخدم المصالح الأميركية، لذلك يكون التركيز على الخطر الفعلي التي تشكّله الجمهورية الإسلامية في إيران وسورية.
بالمقابل، أي عند المعسكر الديمقراطي، فإن خطاب هيلاري كلينتون، وهي المتقدمة في استطلاعات الرأي العام عند الناخب الديمقراطي، لا يخلو من الإشارات المتقاربة مع طروحات خصومها من المرشحين الجمهوريين. فهي تعتبر أن الإطاحة بالرئيس السوري أولوية لمكافحة الإرهاب على حد قولها. كما أنها أيضاً متشدّدة تجاه روسيا والصين مما يقلّص إمكانية التفاهم معهما إذا ما وصلت إلى البيت الأبيض، خاصة أن مصداقيتها على المحك. فمن سلبياتها التي قد تفقدها فرصة الفوز بالانتخابات عدم صدقيتها في ملفات عدة.
والسؤال الكبير هو ماذا يجعل الولايات المتحدة تستمر في خطاب وسلوك تصعيدي على مختلف الجبهات وكأن التصريحات والمواقف المعتدلة التي تصدر بين حين وآخر ليست إلاّ رماداً في العيون. الحقيقة هي أن حالة الانفصام داخل النخب الحاكمة تعود إلى فقدان الثقة بقدرات الولايات المتحدة للتنافس المشروع فتلجأ إلى خطاب متعالٍ معياره «الاستثنائية الأميركية» و«قدرها المتجلّي» في قيادة العالم. النخب الحاكمة الأميركية في حالة إنكار جماعي تتخلّله بين حين وآخر عقلانية تبدو غريبة، كما هو حال الرئيس الأميركي أوباما وبعض العقلاء كأعضاء لجنة هاملتون ــ باكر الشهيرة التي تدخّلت لوضع حد لمغامرات الثنائي بوش وشيني لكن المصالح الخاصة يبدو أنها الأقوى فتتراجع أصوات العقلانية. أضف إلى ذلك التراجع الاقتصادي البنيوي الذي يحفّز صعود الخطاب الغرائزي للتعويض عن العجز في معالجة الأمور الأساسية داخلياً على الصعيد الاقتصادي والاجتماعي وحتى التربوي. كما أن التحوّلات في البنية السكّانية لعدد من الولايات، حيث الأكثرية البيضاء الانكلوسكسونية البروتستنتية أصبحت مهدّدة لمصلحة مزيج من المواطنين المنحدرين من أصول اسبانية أو آسيوية أو إفريقية. لذلك نرى صعود الخطاب العنصري عند عدد من المرشّحين للرئاسة، كما نرى تكاثر أعمال القتل على قاعدة عنصرية والتبرير لها من قبل وسائل الإعلام المرتبطة بمصالح الشركات الكبرى.
وإذا اعتبرنا أن كل سياسة خارجية للولايات المتحدة لها اعتبارات داخلية، فالخطاب القائم في وسائل الإعلام الأميركية خطاب تحريضي ضد العرب والمسلمين إلى أن وصل إلى تبنّي المرشح ترمب خطاباً عنصرياً بامتياز دون أن يستدرج ردّة فعل شاجبة قوية من قبل منافسيه. بل كل ما شهدناه هو تنديد مبدئي خجول وكأنهم مغتاظون من «السبق» الذي أنجزه ترمب! ومن هذه الزاوية نعتبر أن معايير السياسة الخارجية الأميركية ستكون خاضعة لمواقف مراكز القوة في الولايات المتحدة، سواء في الإدارة الجديدة أم في الكونغرس أم في وسائل الإعلام أم في المجمّع العسكري الأمني النفطي والمالي. فقدرة المجمّع المذكور على صنع القرار وإن لم يخلُ من تناقضات على المدى المتوسط والطويل إلاّ أنه يعكس حالة الترهّل داخل البنية الحاكمة في الولايات المتحدة.
فعلى سبيل المثال يعطي المراقب والمعلّق العربي بشكل عام قليلاً من الاهتمام للمؤسسة العسكرية في الولايات المتحدة. فما زال هناك مَن يعتبر وجهة النظر الطوباوية أن المؤسسة العسكرية الأميركية خاضعة للسلطة المدنية. ذلك صحيح نظرياً، ولكن فعلياً هناك دلائل واضحة تنقض تلك الرؤية. فالقنبلة التي فجّرها الصحافي المرموق سي هرش في مجلّة «لندن ريفيو أو بوكس» حول دور المؤسسة العسكرية في إفشال خطط أوباما في سورية في تسليح ما سُمّي بمعارضة «معتدلة» هو دليل على دور المؤسسة العسكرية ونفوذها. نذكّر هنا أيضاً بدور رئيس هيئة الأركان المشتركة السابق مارتن دمبسي في تلكُّئه في القيام بعمل عسكري واسع محدود باللفظ، ولكنه واسع بالفعل بسبب الردود الإقليمية المرتقبة والمعلنة! ضد سورية في صيف 2013. استمر الوضع إلى أن أتت خشبة الخلاص بالمبادرة الروسية التي حفظت ماء الوجه للرئيس الأميركي والتراجع عن التصعيد المدمّر والعبثي في المنطقة وربما في العالم. ويشير هرش في مقاله إلى درجة التنسيق العليا بين أركان الجيش الأميركي والروسي منذ فترة طويلة، رغم الكلام التصعيدي السياسي الصادر إما عن البيت الأبيض أو الكونغرس الأميركي. ونذكّر أيضاً أن التوجّهات الإستراتيجية الأميركية تضعها القيادة المركزية سنتكوم . والبيت الأبيض أو مجلس الأمن الوطني أو الخارجية الأميركية مولجون بتسويق تلك التوجّهات لا صنعها.
والسؤال المطروح في هذه الأيام هو مصداقية المؤسسة العسكرية بعدما كشفت صحيفة الـ»نيويورك تايمز» عن فضيحة التلاعب بالمعلومات حول الحرب على الدولة الإسلامية لمصلحة توجّهات البيت الأبيض. فعلى ما يبدو كانت ادّعاءات البيت الأبيض من «إنجازات» ميدانية ضد داعش مبنية على معلومات غير دقيقة تمّ التلاعب بها خدمة للموقف السياسي. هذا ما حصل في السابق مع أجهزة الاستخبارات الأميركية في الترويج للحرب على العراق ومن بعد ذلك في عملية استهدفت أسامة بن لادن على حد تحقيق سي هرش. واليوم على ما يبدو تصبح المؤسسة العسكرية الأميركية تحت المجهر بسبب تلك الفضيحة.
من جهة أخرى قد تكون القيادات العسكرية الأميركية السابقة أكثر عقلانية من القيادات السياسية في الشروع في مواجهات عسكرية قد لا تستطيع الولايات المتحدة تحمّلها. هذا كان الحال في الولاية الثانية للرئيس بوش الابن وفي ولايتَيْ أوباما. أما اليوم، فقد تبرز قيادات عسكرية أكثر انتهازية لمصالحها الشخصية تسترضي فعّاليات المجمع العسكري الأمني النفطي المالي، وتكون متهوّرة في قراراتها. ليس من المؤكَّد استمرار التنسيق العسكري بين روسيا والولايات المتحدة. نذكّر هنا بمذكرة أعدّها عدد من القيادات العسكرية الصاعدة تجعل من روسيا العدو الوجودي للولايات المتحدة. هذا ما صرّح به الجنرال مارك ميللي قائد الجيش الأميركي في 21 تموز/يوليو 2015، وكذلك قبله تصريح المرشّح لرئاسة هيئة الأركان المشتركة جون دنلوب في شهادته أمام مجلس الشيوخ في 10 تموز/يوليو 2015.
في هذا السياق ربما يحتاج مقال سي هرش بعض الملاحظات. قد يكون صحيحاً ما أتى به حول دور المؤسسة العسكرية في إجهاض تسليح «المعارضة المعتدلة» في سورية. لكن نذكّر أن الرئيس الأميركي أوباما كان قد أبدى تحفظّات كبيرة حول تلك المعارضة التي سمّاها بالفانتزيا. لكن بالمقابل لم يتوقف، على ما يبدو، عن دعمها. لهذا وجدنا مواقف متناقضة حول التسليح والتمويل لتلك المعارضة. هذه نقطة تستوجب التوقف عندها فهي تصب في مصداقية الرئيس شخصيا. إما يدعم أو لا يدعم «المعارضة المعتدلة».
الحقيقة أكثر تعقيداً، لأنها تخضع لتجاذبات داخل البيت الأبيض وخارجه وقد يكون الرئيس الأميركي مكبّلا بها. ليست وظيفتنا تبرئة أو تلميع صورة الرئيس الأميركي الذي قد يكون في رأينا أكثر عقلانية أو أقلّ حماقة من الجوقة التي تحيط به داخل البيت الأبيض وخارجه. لكن العامل الشخصي له الدور الحاسم. فالرئيس الأميركي لا يحبّ المجابهة، وبالتالي لا يكترث كثيراً لمضاعفات القرارات السياسية الخارجية. فمزاجه الشخصي هو السياسة الداخلية، وبالتالي تصبح القرارات الخارجية خاضعة لتجاذبات داخل البيت الأبيض. من هنا نفهم الهجوم الممنهج من قبل خصوم الرئيس على سياسته الخارجية التي لا تخلو من التناقض بين نزعة تريد «تسوية ما» ونزعة تصادمية مع خصومها.
في آخر المطاف فإن مصير التفاهم بين الولايات المتحدة وروسيا حول عدد من القضايا مرتبط بأمور تتعلّق بالمشهد الداخلي الأميركي المترهّل والخاضع لمزاج قيادات تمتاز بالرداءة العقلية والأخلاقية. لكن هذا حديث آخر لوقت لاحق.
(البناء)