مأزق التكيف الأميركي
غالب قنديل
تولد الحملات الانتخابية لمرشحي الرئاسة الأميركية من الحزبين الجمهوري والديمقراطي انطباعا بأن الولايات المتحدة تشحن قواها للذهاب إلى عهد جديد من الحروب التي تستهدف القوى المنافسة والناهضة في وجه الهيمنة الأميركية الأحادية على العالم التي رانت ربع قرن من الزمن وتتركز التعبئة الشعبوية العدائية في وسائل الإعلام على مجموعة من الأهداف والعناوين : الصين وروسيا وإيران وسورية واوكرانيا بينما تستخدم صورة التهديد الإرهابي المتجدد لتسويق فكرة الحاجة إلى استخدام القوة العسكرية الأميركية في الخارج ولتذليل عقدة رفض الرأي العام الأميركي لمبدأ إرسال الجنود إلى ساحات القتال بعد الفشل المدوي في العراق وأفغانستان وما تركه من ارتدادات داخلية كبيرة نتيجة التفاعلات الاقتصادية والاجتماعية وحجم الخسائر البشرية والمالية التي رفعت من أكلاف نهج المغامرة العسكرية في ولايتي جورج دبليو بوش .
أولا تنشط مراكز الدراسات الأميركية في غالبيتها لتحضير خطط واقتراحات تخدم التوجه العدائي المتشدد في التصدي لفكرة التسليم بالتوازنات العالمية الجديدة ولرفض الإذعان لقواعد الشراكة الدولية الذي يعامل على انه انتقاص من مكانة الولايات المتحدة كقوة قائدة في العالم وهذا المفهوم يستخدم في الشحن التعبوي للجمهور الذي تستثار غرائزه القومية ضد دول وشعوب توسم بصفة العدو وتجري شيطنتها على اوسع نطاق عبر وسائل الإعلام ويلعب المحافظون الجدد من الحزبين الديمقراطي والجمهوري دورا محوريا في تلك الحملات معلنين النفير للدفاع عن مجد أميركا العظمى ودورها القيادي في العالم ويستهدفون بالتحريض العدائي شخصيات ورموزا كالرئيس فلاديمير بوتين والإمام السيد علي الخامنئي والرئيس بشار الأسد والرئيس شي جين بينغ وتخصص للهجمات مساحة إعلامية تتعدى بكثير ما هو مكرس للكلام عن زعيم داعش ابوبكر البغدادي.
يسعر من أجواء الشحن والتعبئة تحول الحملات الانتخابية إلى مباريات حافلة بالمزاودة السياسية بين المتنافسين داخل الحزبين وارتفاع شعبية الأشد تطرفا بينهم في استطلاعات الرأي التي تقود الاستقطاب السياسي والحزبي خلال مراحل الانتخابات الأميركية .
ثانيا يتضح من الوقائع ان المؤسسة العسكرية الأميركية لاتبدي تجاوبا كبيرا مع نزعة الحرب المتجددة في الحزبين الكبيرين وقد برهنت ولايتا الرئيس باراك اوباما على ان قيادة الأركان المشتركة توصلت إلى مبدأ إدارة الصراع وحصر التدخلات الأميركية عند حدود تلافي اندلاع الصدام العسكري المباشر مع القوى المنافسة انطلاقا من حساب الإمكانات والقدرات الأميركية والتوازنات المستجدة في العالم وهو ما أسس لطي فكرة الحرب على إيران وللتراجع عن قرار غزو سورية عام 2013 وأجبر القيادة السياسية الأميركية على قبول فكرة التسويات السياسية مع مواصلة اتباع استراتيجية الحروب بالوكالة رغم الإخفاقات ومخاطر الارتداد الإرهابي وهي أصلا عقيدة من منتجات قيادة الأركان المشتركة وتحمل بصمتي الجنرالين ديفيد بيترايوس ومارتن ديمبسي .
يفترض ان الجدل بشأن خيارات المستقبل يشغل المؤسسة الأميركية الحاكمة بأجنحتها الثلاثة : النخبة العسكرية والنخبة السياسية والتكتلات الاقتصادية الكبرى والهم الجوهري هو كيفية الاحتفاظ بهيمنة الولايات المتحدة في العالم وبينما يدعو المتطرفون الجمهوريون والديمقراطيون إلى انقلاب شامل يطيح بنهج اوباما يدرك القادة العسكريون استحالة السير إلى مغامرات يمكن ان تتطور إلى اشتباك مباشر مع القوى العالمية المنافسة وبصورة خاصة روسيا والصين وكذلك إيران وسيكون عليهم البحث عن بدائل جديدة من ضمن مفهوم القيادة من الخلف.
ثالثا القوة الأميركية العظمى تعيش في مأزق التكيف مع التغييرات الجارية في العالم والمسارات السياسية التي تنخرط فيها الولايات المتحدة ايا كانت إدارتها يمكن ان تتحول بذاتها إلى ميدان للصراع والتجاذب مع الخصوم ومن هذه الزاوية ينبغي النظر إلى موافقة واشنطن تحت ضغط التوازنات على القرارين 2253 و2254 بخصوص سورية وإلى اتفاق كييف بخصوص اوكرانيا فسيبقى الفصل للميدان ومعادلاته.
في الميراث السياسي الأميركي نموذج حي لكيفية التلاعب بالتفاهمات المولدة لمسارات سياسية عنوانها تسوية النزاعات كانت أشده وضوحا خرافة ما سمي بعملية السلام في الشرق الأوسط وهي مستمرة منذ مشروع روجرز الشهير من غير إعلان وفاة منذ اكثر من أربعين عاما وواكبتها حروب إسرائيلية بدعم اميركي واسع بينما استخدمت تلك العملية لترويض حكومات وجهات تم إخضاعها لفكرة الاعتراف بإسرائيل والتنازل عن حقوق سيادية مغتصبة .
من الواضح ان الولايات المتحدة تفضل التكيف مع عالم مضطرب ومشحون بالمخاطر نتيجة تصميمها على استنزاف الخصوم ورافضي الهيمنة بدلا من التسليم بتوازنات جديدة وإعادة ترتيب العلاقات الدولية على أساسها وهي تتمسك باستماتة بموقع الهيمنة العليا على العالم وينبغي ان نتذكر جيدا انه غداة انهيار الاتحاد السوفيتي بنيت عقيدة منع قيام القوى المنافسة على فكرة استخدام التفوق العسكري والتكنولوجي الأميركي لإخضاع العالم للهيمنة الاقتصادية والمالية والسياسية الأميركية وهذا يرجح راهنا استئناف عروض القوة العسكرية والحروب بالواسطة تحت سقف تحاشي الاشتباك الكبير في عودة لنظرية حافة الهاوية التي ظهرت في سنوات الحرب الباردة.