غريغوار حداد خسرناك
ناصر قنديل
– منذ بدأنا نقرأه في مجلة «آفاق» وتتوسّع آفاقنا معه في مطالع سبعينيات القرن الماضي ونحن ندين له بعلم المنطق أستاذاً، علّمنا أن لا نخطئ بحق الظواهر في قراءتها من الخارج، وأن نتعب لنتمكّن من رؤيتها مرتين، من الداخل إلى الخارج ومن الخارج إلى الداخل، حتى نبدأ النقاش، وعندما كنا نتابع مسيرته الكنسية والإنسانية، وإيمانه بمعادلة الله والإنسان، وبلورته لها كنصّ لاهوتي وفلسفي في آن، وتحمّله شظف مسيرة عذاب كنسية تتمثل مسيرة السيد المسيح، وصولاً إلى رميه بالحرم الكنسي أسوة بصلب سيّده ومعلّمه عيسى بن مريم، والابتسامة والتورّد المحبّب على خدّيه يشيان بعميق إيمانه بما يفعل، وشعوره باقترابه من حقيقة إلهية، حتى التقينا وتكرّر اللقاء مراراً ومراراً في الثمانينيات، وما أنتجته من حبّ عميق واحترام أشدّ عمقاً، وحوار لا ينقطع، حتى رحيله قبيل عيد الميلاد، وغريغوار حداد يسكن في القلب مكاناً لا يدانيه إلا مكانه في العقل والوجدان، سيّد لا ينازع في التدرّب المستمرّ على المصالحة بين الدين والعقل، والمحور هو الإنسان، قضية الله في الخلق وقضية العقل في الإبداع، وكلّ تفكّر في الخلق خارج الإنسان لاهوت ترف، أو عبودية، وكلّ تفكّر في الإبداع خارج الحق فانتازيا ترف أو تسكع.
– شكّل المطران غريغوار حداد في مسيرتي الفكرية والسياسية والثقافية معلّماً أساسياً، ومحطة دائمة، تشارك فيهما داخلي مع الراحل الكبير السيّد محمد حسين فضل الله، وكان جمعهما مصدر فرح عندي، وكانا يستغربان إصراري على درجة بينهما، وهي فعلاً ليست في الفكر، بل بطهارة النفس ونقاء الفكر ونزاهة البحث عن الحقيقة، وربط النصّ المحكم في القياس بين علاقة كلّ منهما بالله وبالإنسان، وقد كان كلّ منهما مفكراً إنسانياً وشاعراً وخطيباً ومحاضراً، ورجل دين مميّزاً، وقائداً اجتماعياً مبهراً بإنجازاته، ولم ينجُ كلّ في جماعته من سهام تنكيل، لكنهما في الفكر السياسي، كانا واحداً فيلسوف المقاومة، والآخر فيلسوف العلمنة، وهما الوصفتان اللتان يحتاجهما لبنان. وكم كنت أسعى ليتشاركا الوصفتين، فقد كانت علمانية المطران غريغوار حداد تتمسّك بالتصالح مع الدين وهو يصل حدّ القول بعلمانية مؤمنة، وكانت مقاومة السيّد محمد حسين فضل الله تتسع لمسيحية المطران، ولا أنكر أنني برحيل أولهما السيد فضل الله شعرتُني أهرع لزيارة الثاني في فراش المرض أعزّيه وأدعو له بطول العمر ووافر الصحة وهو يقول لقد نضب الزيت واقترب الرحيل، كما هرعتُ أعزي السيد فضل الله بالشهيد عماد مغنية، وهو يقول لي نتبادل التعزية، فنحار مَن يعزّي مَن بالفقد، وهو قول سيّد المقاومة ذاته يوم تسنّت لي تعزيته وسماع صوته.
– باكتمال رحيل الرجلين، بعد سنين من التشارك معهما في الفكر والروح، أشعر بالبرد، والأمانة هي المقاومة والعلمانية حمل ثقيل، في بلادنا، تتنكّب أكتاف لا تنوء بالحمل مسؤولية الأولى هي قامة السيّد حسن نصرالله، وتتنكّب أكتاف لا تنوء بحمل الثانية في بلادنا هي قامة الرئيس بشار الأسد كصخرة لمشروع علماني في هذا الشرق، يحول دون تمدّد الجفاف والتصحّر ومعه التفتيت والتمزّق إلى بلادنا، وهذا لا يُعفي من عاصر الرجلين وتفاعل مع فكريهما معاً، أن يضع قدميه بثبات، حيث تلتقي المقاومة والعلمانية معاً في مشروع، لعله هذا أحد معاني وجود «البناء» ورسالتها، ومعنى ما نقوم به أنا وزملائي، وما يقوم به الحزب السوري القومي الاجتماعي في مسيرتَيْ لبنان وسورية، لعلّ في ذلك بعضَ عزاء لمن رحلوا وبعضَ رجاء لمن هم على الدرب سائرون.
(البناء)