تركيا وإسرائيل: العودة إلى «الحليف الثابت»! محمد نور الدين
عندما تتصدّر الصحف التركية عناوين مثل «العملية الكبرى» التي يشارك فيها أكثر من عشرة آلاف جندي بدعم من الطائرات والدبابات، يذهب الظن بالمتابع أنها تتوجّه وتستهدف قواعد تنظيم «داعش» في سوريا أو حتى العراق.
لكن بعد ثلاث سنوات من المفاوضات مع «حزب العمال الكردستاني» انتهت هذه إلى إعلان الدولة، ممثلة بسلطة «حزب العدالة والتنمية» الحرب الشاملة على الأكراد.
وسط الضجيج الإقليمي والدولي حول إسقاط الطائرة الروسية، وما تلاه من توتر، ووسط توغّل 20 دبابة تركية إلى شمال العراق، وما تلاه من توتر عراقي – تركي، ووسط الحديث عن تحسن في العلاقات التركية – الإسرائيلية، كانت تركيا تشهد حرباً داخلية، هي الأعنف بين الدولة والأكراد، ولم تأخذ حقها من الاهتمام الخارجي.
منذ أكثر من ثلاثة أشهر، والسلطات التركية تفرض حصاراً على العديد من المدن الكردية، مثل ديار بكر وشيرناق وماردين وسعرت وجزره وسيلوبي وصور وغيرها. هذه المدن يُمنَع فيها من وقت لآخر التجول، ويمنع الدخول إليها، حتى على النواب الأكراد فيما تباشر القوات التركية حرب شوارع مع مقاتلي «حزب العمال الكردستاني» المتمركزين في أحيائها الداخلية، رافعين الحواجز الترابية والمعدنية وحافرين الخنادق، ومانعين أحداً من الأجهزة الرسمية من الدخول إليها.
المعارك ألحقت أضراراً كبيرة مادية بالبيوت والأحياء، وأوقعت مئات القتلى والجرحى، واعتقالات بالجملة، فضلاً عن تهجير الآلاف من قراهم ومنازلهم. العمليات العسكرية استتبعت بملاحقة المقاتلين الأكراد في الأرياف بمشاركة المقاتلات والطائرات من دون طيار.
هذه الحرب الجديدة غير مسبوقة بين الدولة والأكراد. في إعادة لمشهد التسعينيات لا شك في أن «الكردستاني» كان حينها يسيطر على الأرياف، ولكن في الحرب الجديدة فإن التكتيكات اختلفت وانحصرت داخل المدن، وهذا أمر يستدعي تساؤلات عن طبيعة الحرب الجديدة وأسبابها.
في وجهة النظر الرسمية أن «حزب العمال الكردستاني» استشعر بالقوة بعد انتصار «حزب الشعوب الديموقراطي» الكردي المؤيد له بانتخابات 7 حزيران والأول من تشرين الثاني ودخوله إلى البرلمان، للمرة الأولى، كحزب له الآن 60 نائباً. يريد «حزب العمال الكردستاني»، وفقاً لأنقرة، أن يستكمل الانتصار السياسي بانتصار على الأرض، من خلال تطبيق فكرة الحكم الذاتي بحكم الأمر الواقع، بعدما رفضت أنقرة كل أنواع الإدارة الذاتية التي يطالب بها الأكراد. ومن هذه الزاوية، فإن الأكراد يريدون أن يديروا أنفسهم بأنفسهم، وهذا يستدعي تغييب الدولة ومنعها من ممارسة مهامها، وهو ما لا توافق عليه الدولة، فاندفعت إلى كسر إرادة فكرة الحكم الذاتي التي يحاول الأكراد ترسيخها في المدن الكردية.
لكن تفسيرات أخرى ظهرت، في الجهة المقابلة، وراء أسباب اندلاع الحرب الجديدة، وتتصل بالأوضاع الإقليمية. فمع تقدم الحالة الكردية في سوريا، وتحقيق إنجازات عسكرية ومن ثم سيطرتها على أكثر من 500 كيلومتر من الحدود السورية مع تركيا، باتت أنقرة تتوجّس من القوة الكردية الصاعدة، خصوصاً أن «وحدات الحماية الكردية» في سوريا على صلة بنيوية بـ «حزب العمال الكردستاني». وترى تركيا أنه لولا هذه الصلة لما اكتسب أكراد سوريا هذه القوة العسكرية. والحرب التركية الجديدة ضد أكراد تركيا تهدف إلى كسر شوكة «الكردستاني» في الداخل التركي لإضعاف خطوط الإمداد العسكرية والبشرية إلى وحدات الحماية الكردية. أي أن الحرب التركية هذه تزامنت مع تمدّد قوات الحماية الكردية، وخطر أن تتجاوز نهر الفرات إلى الغرب والسيطرة على المناطق من جرابلس إلى عفرين.
الحرب التركية الجديدة ضد الأكراد، سواء لكسر فكرة الحكم الذاتي، أو لوقف الدعم لقوات الحماية الكردية في سوريا، لم تنته بعد، وهي مفتوحة على تصعيدات ومتغيّرات. لكن لسان حال الأكراد أن العالم لا يذكرهم، ولا يشير إليهم، وأنه نسيهم فيما هم يواجهون آلة الحرب التركية.
تخبّط الحكومة التركية
في هذا الوقت الذي تصرّ الحكومة التركية على التعامل مع المسألة الكردية على أنها مشكلة أمنية وليست مشكلة تتصل بتعزيز الديموقراطية وحقوق الإنسان، تواصل الحكومة التركية تخبّطها في قضايا السياسة الخارجية. بعد انتصاره في الانتخابات النيابية الأخيرة وعودته إلى السلطة منفرداً، وبفارق كبير، لا يرى «حزب العدالة والتنمية»، ممثلاً برئيسَي الجمهورية والحكومة، نفسه مضطراً للإصغاء إلى الأصوات الداخلية التي تنتقد سياسته الخارجية.
التخبط في السياسة الخارجية واضح للجميع. إسقاط الطائرة الروسية جلب على تركيا خسائر مجانية، لم تكن تتوقعها أو حتى تفكر بها. لا يقتصر الأمر على الشأن الاقتصادي، الذي ألحق أضراراً كبيرة بالصادرات التركية وأثر سلباً على الاستثمارات الخارجية فيها، من جراء صورة البلد غير المستقر والمفتوح على صدامات عسكرية. بل تعدّى ذلك إلى الحيّز الاستراتيجي. وبعدما كانت تركيا جارة لـ «الدب» الروسي المسلّح بأنياب ومخالب في الجهة الشمالية، إذ بهذا الجار المسلح يصبح أيضاً الجار الجنوبي لها في سوريا وفي المياه المتوسطية الدافئة. وربما يتمدّد ليصبح جاراً في العراق، فضلاً عن جيرته المتعاظمة في أرمينيا. في البعد الاستراتيجي يعتبر هذا خسارة استراتيجية مؤكدة لتركيا ولحلفاء تركيا أيضاً.
فما كانت تريده تركيا من منطقة آمنة أصبح طي التاريخ. أما إقامة منطقة حظر جوي فباتت في خبر كان. ولا يخفى أن الخسارة الأكبر كانت ولا تزال مستمرة في التطورات الميدانية، ولا سيما في ريفَي اللاذقية وحلب. وما كانت أنقرة تعمل عليه لإضعاف وحدات الحماية الكردية في سوريا تراجع، على اعتبار أن روسيا ستكون عضداً قوياً للأكراد في سوريا. وأيضاً خسائر تركيا في سوريا من جراء التدخل الروسي كانت واضحة على الصعيد السياسي بإسقاط مطلب رحيل الرئيس بشار الأسد من عملية المفاوضات السياسية لحل الأزمة السورية. وكم كان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين واضحاً وحاداً، في مؤتمره الصحافي أمس الأول، في أن التصعيد ضد أنقرة مستمر، ولا سيما في الساحة السورية.
والتخبّط التركي في السياسة الخارجية واضح أيضاً في طريقة تعاملها مع الوضع في العراق، والخطوة غير المفهومة وغير المبررة في إرسال ألف جندي و25 دبابة إلى منطقة بعشيقة شمال الموصل.
ولعل أنقرة فوجئت كعادتها في توقع ردة الفعل العراقية تحديداً على هذه الخطوة. ولم تكن تتوقع أن يصدر بيان من المرجعية العليا في النجف ضد هذه الخطوة، وهو ما أسقط بيد تركيا لأنه وضعها وجهاً لوجه أمام الكتلة الشيعية العراقية وفي المنطقة.
والخسارة التركية هنا كبيرة. لأن أنقرة لم تحقق أي مكسب منها، فيما تعرّضت لخسائر معنوية ومادية ومقاطعة منتجات ووجدت نفسها معزولة في العالم فلم يؤيّدها أحد، حتى الولايات المتحدة طالبتها بالانسحاب. وكحالة المتسلل المضبوط بالجرم المشهود لا تدري القوة التركية في بعشيقة من أين تأتيها النيران: هل من «داعش» فعلاً، أم من كتائب «حزب الله» أم من عناصر مجهولة، أم هي التي أطلقت عبر «داعش» قذائف لتبرير تواجدها في شمال العراق؟
أما الخسارة الأكبر فهي تراجع الرئيس رجب طيب أردوغان عن كلامه من أن انسحاب القوة أمر غير مطروح على النقاش. ولكن بعد يومين على هذا التصريح كان رئيس الحكومة أحمد داود اوغلو يقول إن القوة تقوم بعملية إعادة انتشار، وينسحب جزء منها، وربما كلها، إلى خارج بعشيقة وربما إلى داخل المنطقة الكردية.
وينتقل التخبّط التركي إلى مسألة المشاركة في التحالف العسكري الإسلامي، الذي أعلنت السعودية تشكيله من 35 دولة إسلامية. فتركيا في الأساس بلد مسلم، لكن نظامه علماني، وسياساته الداخلية والخارجية لا يفترض أن تنطلق من أسس دينية إسلامية. بل إن انضمام أنقرة إلى منظمة المؤتمر الإسلامي لدى تشكيلها قبل أكثر من نصف قرن واجه نقاشات مطوّلة في تركيا.
مشاركة أنقرة في الأحلاف الخارجية مشروع وحق لها، وقد شاركت في أحلاف بغداد و «السانتو» والدفاع المشترك، وفي حلف شمال الأطلسي، وأرسلت وحدات إلى دول عدة في إطار قرارات مجلس الأمن. لكن أن تشارك فوراً في قوة لها طابع ديني إسلامي، وهي البلد العلماني، فهو ما يخالف طبيعة نظام الدولة وعقيدة المؤسسة العسكرية، خصوصاً أن وزير الخارجية الأميركي جون كيري أكد أن التحالف الجديد، الذي أعلنته السعودية، هو تحالف سنّي بخلاف ما قاله وزير الدفاع السعودي الأمير محمد بن سلمان من أن التحالف الجديد ليس سنياً ولا شيعياً.
ما الذي يدفع تركيا أن تنضم بسرعة إلى هذا الحلف العسكري الإسلامي، تماماً كما أعلنت سابقاً مساندتها للتحالف السعودي ـ العربي في اليمن؟ في الأساس إن أنقرة تخاتل في القول إنها حليفة الرياض في اليمن، وهي لم تقدم لها شيئاً. تركيا تريد أن تكسب أي دولة، وأي تنظيم مهما كانت طبيعته، ليكونوا إلى جانبها في الصراع ضد سوريا ورئيسها بشار الأسد. إنها مرة أخرى «عقدة الأسد» التي تتحكم بكل جوارح القيادة التركية، حتى إذا وجدت أن هذا التحالف لا يفيدها في الضغط على دمشق تخلّت عنه، أو بقيت خارج المشاركة الفعلية. وفي المحصلة إن مسارعة تركيا للانضمام إلى تحالفات هنا وهناك، لا يجمع بين أعضائها سوى الطعن في الظهر والتنافس وتضارب النيات والأهداف، لا يليق بدولة إقليمية كبيرة حققت حداثة أوروبية بفضل مكاسبها العلمانية، ثم جاءت لتطيح بها وتبتعد عن أوروبا من أجل زعامات قومية أو دينية أو مذهبية في العالم العربي والإسلامي والشرق الأوسط.
مغازلة إسرائيل
وبعد هذا كله تأتي هذه الدولة، وعلى لسان رئيسها، لتمدّ خيوط غزل إلى الدولة العنصرية الأولى في العالم، أي إسرائيل، متأمّلة أن تعود العلاقات إلى طبيعتها بين الدولتين، وأن يكون التطبيع لفائدة كل المنطقة!
في الأساس لم تتوقف العلاقات بين تركيا وإسرائيل. وخارج الخطاب اللفظي الذي كان يطلع به أردوغان من وقت لآخر، والذي كان ينتقد به إسرائيل والذي توقف منذ فترة طويلة، فإن العلاقات بين أنقرة وتل أبيب لم تتوقف عن اتخاذ مسار تصاعدي من النمو والتعاون. وهي علاقات استراتيجية بكل معنى الكلمة، مهما ظهر أنها ليست كذلك أحياناً.
فعلى الصعيد الاقتصادي بلغ حجم التبادل التجاري ذروته هذا العام، بأكثر من ستة مليارات دولار بزيادة سنوية عما قبلها بـ35 في المئة. ولم تتوقف السفن التركية من الوصول إلى موانئ إسرائيل لبيع النفط المهرب من مناطق سيطرة «داعش» ومن إقليم كردستان في العراق.
والعلاقات السياسية لم تنقطع، فاللقاءات بين مدير عام الخارجية التركية ومهندس العلاقات بين تركيا وإسرائيل فريدون سينيرلي أوغلو متواصلة مع نظرائه أو ممثلين عن رئيس الحكومة الإسرائيلية في أكثر من مكان. والعلاقات الديبلوماسية لم تنقطع خلا استدعاء السفير. واستمرت العلاقات الأمنية والاستخباراتية والعسكرية بين الدولتين، ولم تتأثر بإلغاء اتفاق من هناك ومناورة عسكرية مشتركة من هناك، وهي أمور تفصيلية وهامشية أمام جوهر المنظومة الأمنية والعسكرية المشتركة بينهما والمرتبطة بالمرجعية الغربية ـ الأطلسية والأميركية تحديداً.
الفارق هذه المرة أن أردوغان بنفسه أطلق عملية إعادة التطبيع الكامل في لحظة خسارة كل «قواعده» في المنطقة العربية والإسلامية بعد الهجوم الروسي، فعاد إلى «القاعدة» الثابتة التي يجدها عند الضرورة والمفتوحة له دائماً في كل زمان ومكان في انتظار ردة فعل التيارات السياسية الإسلامية، الفلسطينية أساساً، على مبادرة مَن اعتبرته هذه التيارات قبل ثلاث سنوات فقط «زعيم العالم الإسلامي!».
وفي قطر لا يجد المرء تفسيراً للقاعدة العسكرية التركية فيها سوى أنها تستفز الدول الخليجية الأخرى. فقطر ليست بحاجة لهذه القاعدة في ظل وجود قاعدة «العديد» الأميركية الأكبر في الشرق الأوسط. وبالتالي تدخل تركيا بالقاعدة العسكرية لعبة المشاغبة الأميركية، تحت سقف توسيع نظرية «الفوضى الخلاقة» لتشمل هذه المرة منطقة الخليج والصراعات البينية بين دول مجلس التعاون الخليجي، ولتكون الأسئلة أكبر عن جدية المشاركة التركية في تحالف إسلامي جديد بقيادة السعودية، التي تدخل أنقرة معها في حروب ضروس في كل الساحات ما خلا سوريا، ولتشكل هذه القاعدة أساساً استفزازاً صارخاً للسعودية والإمارات قبل أن تكون رسالة أيضاً للجار الإيراني.
في خضم هذه اللوحة التشكيلية المختلطة، الممتدة من روسيا إلى سوريا، ومن بعشيقة إلى جرابلس، ومن الرياض إلى تل أبيب وصولاً إلى الدوحة، هل يوجد بعد مَن لا يعرف لماذا انهار المشروع التركي في المنطقة، ولم يعُد له من أصدقاء؟ وهل يوجد من يمكن له أن يتوقع ما الذي يمكن أن تلجأ إليه تركيا من خطوات انفعالية غير عقلانية، وغير محسوبة، للخروج من مآزقها وتخبّطاتها وفشلها سوى الحليف الاستراتيجي الدائم إسرائيل؟
(السفير)