حرب أهلية في تركيا: تسفي برئيل
حجارة البازلت السوداء التي بني منها جدار «صور» في مدينة ديار بكر، شاهدت حروب كثيرة في الماضي. مثلها ايضا نهر دجلة الذي يقطع عاصمة المنطقة الكردية في تركيا، عرف صراعات كبيرة في تاريخه. صور هو حي مكتظ مليء بالازقة الملونة وآلاف الحوانيت الصغيرة التي تجذب في الايام العادية السياح الذين يمرون بالمدينة وهم في طريقهم إلى الاماكن الشرقية في تركيا، إلى ينابيع فان وجبال كتشكار.
في الاجزاء المتحضرة لمدينة ديار بكر توجد عمارات مرتفعة وفنادق فاخرة ومراكز تجارية جديدة وميادين جديدة تنظم الحركة المكتظة. لكن ديار بكر بعيدة عن أن تكون موقعا سياحيا هادئا. فهناك توتر دائم يسود المدينة حيث تدور هناك منذ سنوات صراعات قوة بين الشرطة والجيش التركي وبين الحركات الكردية ومنها حزب العمال الكردستاني الـ«بي.كي.كي».
وصلت الصراعات في الاسبوع الماضي إلى ذروة جديدة تُذكر بالايام المظلمة في التسعينيات حينما «احتلت» السلطات التركية المدينة والمواقع الكردية القريبة منها وهدمت آلاف القرى واقتلعت مئات آلاف المواطنين الاكراد وفرضت الحكم العسكري. حسب شهادات مواطنين وصحافيين، تحولت مدن ديار بكر وصرت وسيلوفي وجزره إلى مواقع لمعارك عنيفة بين الجيش والملثمين الذين يتمركزون وراء الاستحكامات وهم يحملون رشاشات الكلاشينكوف بشكل علني ويلقون الزجاجات الحارقة ويطلقون النار على الجنود. وكما يبدو فان هذه البداية فقط.
أعلنت السلطات في بداية الاسبوع لسكان حي صور وسكان سيلوفي وحزره أنه من الافضل لهم ترك بيوتهم لأن «معركة كبيرة ستحدث».
اعلان مشابه وصل للسكان من الـ«بي.كي.كي» الذين يستعدون للحرب حيث يضعون قطع القماش الكبيرة أمام الاستحكامات التي أقاموها من اجل الاختفاء عن أنظار القناصة والطائرات التركية، وهم يخزنون المؤن في البيوت والملاجيء ويخططون لمواجهة الهجوم المتوقع. وقد غادر نحو 3 آلاف معلم المدارس في هذه المقاطعات والسكان يستغلون ساعات رفع حظر التجول من اجل الفرار إلى اماكن أكثر أمنا. وحسب التقارير فان أكثر من 200 ألف شخص غادروا منازلهم ونحو ألف حانوت أغلقت في صور، ويبدو أن المزيد منها ستغلق في الايام القريبة.
تركيا حسب تقديرات محللين اتراك تسير باتجاه الحرب الاهلية التي من شأنها أن تجر ايضا المدن في غرب الدولة ولا سيما اسطنبول التي يعيش فيها نحو 2 ـ 4 ملايين من الاكراد. ما زال من السابق لاوانه تبني هذه التقديرات. لكن بيقين تركيا تمر باحدى الازمات الداخلية الصعبة والخطرة حيث تواجه الإرهاب الداخلي وجبهة متقدمة على حدودها مع سوريا أدت إلى حدوث شرخ عميق مع روسيا، والتي تُدار من قبل رئيس دولة ورئيس حكومة يحركهما «الأنا» والامجاد الشخصية.
الازمة الحالية مع الاكراد بدأت في حزيران الماضي بعد العملية في مدينة توروتش والتي نسبت لداعش وقتل فيها 33 شخص. وقد اتهم الاكراد في حينه الاستخبارات التركية بأنها عرفت مسبقا عن نية تنفيذ العملية ولم تمنعها. بعد هذه العملية نفذت الـ«بي.كي.كي» عدة عمليات ضد قوات الامن التركية.
وفي بداية شهر آب قررت الحكومة التركية وقف عملية المصالحة بينها وبين الاكراد، التي بدأت قبل ذلك بثلاث سنوات وحققت عدد من التفاهمات المهمة، لكنها لم تكن كافية بالنسبة للاكراد. منذ ذلك الحين قتل مئات المواطنين ورجال الامن في العمليات والمواجهات في جنوب شرق تركيا ومدن اخرى في الدولة.
رئيس حزب العمال الكردستاني عبد الله اوجلان، المسجون في سجن اميرلي بالقرب من اسطنبول، يشاهد من بعيد ولا يأمر أتباعه بالكف عن المواجهات.
أما الرئيس الفعلي جميل بيك الذي يوجد في جبال قنديل في شمال العراق فيستمر في تشجيع اعمال شباب الـ«بي.كي.كي» في تركيا والذين يتخصصون بالاشتباكات في المدن. والرئيس اردوغان من جهته يستمر في الحديث عن الحرب التي لا هوادة فيها.
هذه ليست مواجهات شوارع عنيفة فقط، بل صراع على أجندة راديكالية تجذب الشبان. في الوقت الذي كان فيه الجيل القديم للـ«بي.كي.كي»مستعد بالاكتفاء بحكم ذاتي ثقافي ومساواة في الحقوق، إلا أن الجيل الكردي الشاب الذي يعاني من البطالة في الدولة، يذهب أبعد من ذلك ويطالب بدولة كردية مستقلة أو مقاطعة كردية مستقلة مثل التي في العراق. لكن مؤيدي الـ«بي.كي.كي» وحركة «الثوار الوطنيين» لا يمثلون جميع الاكراد حيث تقف أمامهم حركة حزب الله الكردية التي تتشكل من المسلمين السنة الراديكاليين الذين يعارضون الايديولوجيا الماركسية للـ«بي.كي.كي»، ويتحولون بذلك إلى شركاء للنظام التركي حيث شهدت العلاقات معه ارتفاع وهبوطا. فمن جهة قام النظام باغلاق عدد من مؤسسات الحركة في 2010، ومن جهة اخرى دار الحديث كثيرا عن تعاون بين نشطاء الحركة وبين الاستخبارات التركية. الآن ايضا يتهم الـ«بي.كي.كي» حزب الله الكردي بالعمل ضدهم كجزء من النشاط السري للاستخبارات التركية.
بعد اعلان تركيا في هذا الاسبوع عن أنها ستنضم إلى التحالف الذي يضم 34 دولة سنية والذي تنوي السعودية انشاءه من اجل محاربة الإرهاب، يخافون في ديار بكر من أن يعطي هذا دفعة لنشاط حزب الله الكردي ضد خصومه تحت غطاء الحرب ضد الإرهاب.
هذا الغطاء نفسه تستخدمه الحكومة التركية في صراعها ضد الاعداء السياسيين وبالتحديد ضد الصحافيين. إنه صراع يضع تركيا في المكان الثالث في العالم من حيث التعرض للصحافيين. واضافة إلى الـ 14 صحافي المعتقلين بتهم مختلفة مثل «الاضرار بأمن الدولة» أو «التحريض على العنف» فقد تم في نهاية تشرين الثاني اعتقال صحافيين معروفين هما جان دوبدار وهو المحرر الرئيس للصحيفة المهمة «هورييت»، والثاني اردام غول، رئيس هيئة الصحيفة في أنقرة. وقد تم اعتقالهما لأنهما تحدثا في السنة الماضية عن قضية نقل السلاح للمتمردين من تركيا إلى سوريا في شاحنات المخابرات التركية. المحكمة التركية قررت في هذا الاسبوع مصادرة كتابي حسن جمال وتوتشا تتري من جميع المكتبات لأن هذه الكتب تم العثور عليها في منازل نشطاء الـ«بي.كي.كي» اثناء التفتيش. وكان التفسير الذي قدمته المحكمة هو أن هذه الكتب «تحرض على العنف» و»تؤيد الإرهاب».
كان الاتحاد الاوروبي في البداية وحتى الفترة الاخيرة يطلب من تركيا عدم ملاحقة الصحافيين.
إلا أنه بعد توقيع اتفاق التعاون بين تركيا والاتحاد لمنع انتقال اللاجئين السوريين من تركيا إلى اوروبا (تركيا حصلت على 3.2 مليار دولار)، فان الاتحاد الاوروبي صامت، والحكومة التركية تحظى بحرية التصرف والاستمرار في كم أفواه المعارضين.
في الوقت الذي تزلزل فيه تركيا الصراعات السياسية الداخلية، تستمر الازمة بين روسيا وتركيا في التطور إلى اتجاهات تهديدية.
وقف ثماني سفن تركيا في البحر الاسود من قبل روسيا تحت ذريعة الاخلال بقوانين الملاحة، لحقها رد باحتجاز 27 سفينة روسية لاسباب اجرائية. جهود الوساطة الأمريكية واقتراحات إيران بالوساطة لم تؤت ثمارها.
وتركيا تستعد لفترة طويلة من العقوبات الروسية الامر الذي يستوجب البحث بسرعة عن مصادر بديلة لتوفير الغاز وتسويق المنتوجات الزراعية. وعلى هذه الخلفية سمعنا مؤخرا اقوال كثيرة تقول إن اسرائيل قد تكون مصدرا ممكنا للغاز.
هآرتس