واشنطن وفرضية “التسويات “
غالب قنديل
منذ انطلاق العدوان على سورية حتى اليوم يشهد العالم مخاضا لمعادلات وتوازنات جديدة تحت تأثير صمود الدولة الوطنية السورية ورئيسها وبفعل ديناميكية حلفاء سورية في المنطقة والعالم المبنية على ذلك الصمود ونتائجه ويمكن القول ان مسار اللقاءات الأميركية الروسية المتعاقبة منذ عام 2012 شكل مجالا لاختبار قابلية الإمبراطورية الأميركية للتراجع عن عقيدة الهيمنة الأحادية وقبول الرضوخ للمتغيرات العالمية الاقتصادية والسياسية والاستراتيجية وما يزال السؤال مطروحا حول جدية واشنطن في انتهاج سلوك جديد منذ ذلك الحين ولا يظهر في المشهد غير المزيد من النفاق الأميركي والتحايل السياسي والتصميم على تفعيل الحروب بالوكالة وتسعير حملات العداء ضد روسيا والصين وإيران ومواصلة العدوان الاستعماري ضد سورية.
أولا تنعمت الإمبراطورية الأميركية بالهيمنة الأحادية على العالم منذ حوالي ربع قرن وراكمت جملة من المكاسب والغنائم الوافرة سياسيا واقتصاديا وخاضت جملة من الحروب والغزوات الاستعمارية بقرار من الرؤساء الأميركيين ومعاونيهم بلا أي قيد وسخرت الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي لفرض قواعدها الخاصة والمعولمة في شتى مجالات العلاقات الدولية التجارية والامنية والسياسية وعلى الرغم من التحولات القاهرة المتراكمة وخصوصا على الصعيدين الاقتصادي والاستراتيجي من الصعب افتراض سهولة تسليم أي إدارة أميركية بالتخلي عن كل ذلك والتسليم طوعا بالحقائق الجديدة ومن غير الاختبارات الدامية لفرص التمسك بالهيمنة الأحادية وتمديد السيطرة الأميركية على الوضع العالمي .
يضج المجتمع السياسي الأميركي الصانع للسياسات بدعوات التمسك بمكانة اميركا العظمى المهيمنة في العالم كقوة مسيطرة بينما يتبارى مرشحو الحزبين الجمهوري والديمقراطي في التعبئة والتحريض ضد القوى العالمية الصاعدة مثل روسيا والصين وإيران وتعمم الحملات الرئاسية وصفات متعددة لحروب وتدخلات عسكرية جديدة بذريعة مقاتلة الإرهاب الذي رعته الولايات المتحدة واحتضنته وخاضت بواسطته حروبا بالوكالة في سورية والعراق وليبيا واليمن خلال السنوات الأخيرة.
ثانيا تتيح استراتيجية القيادة من الخلف للولايات المتحدة الاختباء خلف حكومات إقليمية عميلة وتابعة تتصدر العربدة في احتضان الإرهاب ودعمه بشتى السبل وتجنيب الإمبراطورية الأميركية التبعات والنتائج المباشرة وهذا ما يجري واقعيا في الحرب العدوانية على سورية التي يتصدرها الثلاثي التركي السعودي القطري بينما تقدم الولايات المتحدة نفسها في موقع الباحث عن الحلول والمخارج السياسية ويذكر هذا الوضع بالذات بالصراع العربي الصهيوني ومن خلال تلك الاستراتيجية يمكن فهم العربدة التركية ضد روسيا مؤخرا.
القيادة من الخلف ليست عقيدة جديدة فعلى سبيل المثال وقفت الولايات المتحدة دائما في موقع الدعم الكلي السياسي والعسكري للكيان الصهيوني ولحروبه العدوانية ثم تقدمت بوصفها الدولة الراعية للعملية السلمية المزعومة منذ مشروع روجرز الذي أعقب حرب حزيران 1967 العدوانية ومسار المبادرات الأميركية المفتوحة والمتجددة تحت عنوان الحل السلمي يحصد المكاسب لكيان العدو ويعمم نزعة الاستسلام في الواقع العربي ضمن ما عرف بالحقبة السعودية ويتركز على انتزاع التنازلات من الحكومات العربية والقيادات الفلسطينية ولم يخرج عن هذا السياق سوى الموقف السوري القومي والوطني الصلب ونهج المقاومة اللبنانية وذلك ما يصلح لتفسير وفهم خلفيات الحرب الكونية على سورية بقيادة الولايات المتحدة .
ثالثا من الوهم تخيل ان الإدارة الأميركية الحالية تسعى لإغلاق الحروب التي شنتها او لتعميم تسويات للأزمات التي هي حصاد سياستها ونهجها الاستعماري فالحروب والأزمات هي البيئة المناسبة لتحقيق المصالح الاستعمارية الأميركية وهذا ما تشير إليه الوقائع الدولية خلال الخمسين عاما الماضية .
انجزت إدارة اوباما مهماتها الانتقالية التي وضعتها لها المؤسسة الحاكمة وهي تحضر المسرح للإدارة المقبلة بعد انتخابات الخريف بصورة تفتح الطريق امام الخيارين : تسويات الاضطرار الإكراهي وحروب التدخل مباشرة ام بالواسطة وجميع المنصات قائمة ومفتوحة ولذلك يشكل اقتراح المواعيد والمهل الزمنية المبني على موعد الانتخابات الرئاسية عملا افتراضيا لاتسنده الوقائع الصلبة ولنتذكر : وحده التحول الحاسم في التوازنات يفرض على الولايات المتحدة الرضوخ وهذا درس راكمته جميع التجارب التاريخية التي تشهد بأن الرضوخ الأميركي قد ياتي احيانا في صيغة التكيف المؤقت والمخادع برسم انقلاب يجري الإعداد له بكل القدرات المتاحة من استراتيجيات القوة الخشنة او الناعمة فقد استغرق الصرع ضد إيران ستة وثلاثين عاما لينتهي باعتراف اميركي لايحجب اليوم كمية التآمر الجارية لمحاصرة إيران وتهديدها من جديد دون المس بالاتفاق الناتج عن الضرورة الجبرية القاهرة.