سقوط التسوية انتحار الاقوياء ابراهيم ناصرالدين
لعل اكثر «النكات» سذاجة ما سربته وسائل اعلام وكتّاب محسوبين على السعودية تفيد بان رئيس تكتل التغيير والاصلاح ميشال عون غير متمسك بترشيحه للرئاسة، لكن حزب الله يمنعه من اعلان عزوفه!. طبعا مطلقو هذه «الشائعات» يعرفون ان هذه البضاعة «كاسدة» ولا يمكن تسويقها، لكن اطلاقها في هذا التوقيت «خبيث» ويهدف الى «دغدغة» مشاعر واحاسيس جمهور تيار المردة لدفعه الى تحميل الحزب مسؤولية ضياع «الفرصة التاريخية» المتمثلة بانتخاب النائب سليمان فرنجية رئيسا.
اوساط بارزة في 8آذار تصف المحاولة بانها «بائسة» وتهدف لتصدير ازمة فريق14 آذار، بعد ان فوت «صمت» حزب الله الفرصة على الرغبة العارمة لدى الفريق الاخر باطلاق «رصاصة الرحمة» على تفاهم «مارمخائيل». من الواضح ان فريق الرئيس سعد الحريري مربك ويحتاج الى «شماعة» يعلق عليها مسؤولية فشله في تسويق التسوية، بعد سلسلة «الهفوات» القاتلة التي شابت «ولادتها»، «الطفل» الوليد تعثر، وثمة من يبحث جاهدا لتكبيد حزب الله خسارة جزئية بخلق «جدار» نفسي مع بنشعي، باعتباره لم «يتحمس» كما يجب لانجاح التسوية. لكن هل من عاقل يمكن ان يصدق كلاما مماثلا؟
بعض الانتهازيين نعم، لكن من في رأسه «عقل» يدرك ان القيادات المسيحية وحدها دون سواها تتحمل المسؤولية المباشرة عن «فرملة» التسوية الراهنة، فلو جاء «الجنرال» اليوم او غدا، وابلغ حزب الله انه يتنازل عن «طيبة خاطر» لصالح فرنجية باعتباره احد القيادات الاكثر وفاء «للخط» السياسي المقاوم، فان حزب الله سيكون اكثر المباركين لهكذا قرار، فلو ترك الامر «لعقل» حزب الله الاستراتيجي فان رئيس تيار المردة يعد «هدية» من السماء. لكن هل يظن احد ان حزب الله في وارد الضغط على عون لتليين موقفه اذا لم يكن مقتنعا هو بذلك؟ وهل يظن احد ان الحزب في وارد المغامرة بخسارة حليفه المسيحي الاقوى الذي احدث نقلة نوعية لدى شريحة كبيرة من المسيحيين تجاه المقاومة ؟ الجواب هو طبعا بالنفي.
«الكرة» في «ملعب» الجنرال عون والحريري وليس حزب الله، ومن يقول غير ذلك يتعمد الاساءة الى الحزب عن سابق تصور وتصميم، فرئيس المستقبل معني باستكمال «عرضه»، اما الجنرال فهو معني بتقويم جدي للامور، من حقه البحث عن ضمانات للتيار الوازن مسيحيا، ابتداء من قانون الانتخاب مرورا بالتعيينات وصولا الى الحقائب الوزارية، لن يستطيع احد سلبه هذا الحق، فاذا كان الرفض من اجل رفع السقوف والاثمان، فهذا امر منطقي لا يستطيع احد المجادلة فيه، اللقاء مع فرنجية بالامس يمكن البناء عليه اذا ما فتح «الباب» جديا امام نقاش بنود التسوية. يجب التفكير مليا اذا ما كانت الفرصة متاحة جديا لايصال حليف المقاومة القوي الى بعبدا. «مفاتيح الاقفال» الرئاسية ليست في جيب حزب الله، هو يستطيع اقفال الباب امام اي تسوية لا ترضيه، لكنه غير قادر على فتح «نافذة» امام اي حل لا يرضي «الجنرال» باعتباره المعني الاول بالملف، ولا نية للحزب بخسارة هذا التحالف من اجل الرئاسة. حزب الله لا تسمح له «اخلاقه» بان يتعامل مع عون كما يتعامل تيار المستقبل مع حلفائه المسيحيين، ثمة التزام اخلاقي وقناعة راسخة بالحفاظ على العلاقة المتينة مع «التيار البرتقالي» باعتباره فريقا وازنا لا مجرد «اداة»، واذا كان المعترضون على التسوية يعللون اعتراضهم بان طرفا اسلامي يريد فرض اسم الرئيس، فهل ثمة من يعتقد ان حزب الله يمكن ان يغطي جلسة انتخاب لا يكون فيها تكتل التغيير والاصلاح ناخبا اول؟ وهل يمكن ان يتحمل تهمة تجاوز القاعدة المسيحية الاكثر اتساعا وانتخاب رئيس باصوات المسلمين؟
وبرأي تلك الاوساط، من النتائج الاولية لسقوط هذه التسوية سيكون اطالة امد الشغور الرئاسي الى اجل بعيد وغير مسمى، بعد انتفاء فرص وصول أحد المرشحين الاربعة «الاقوياء»، وهذا سيفتح الباب امام العودة الى صيغة البحث عن مرشحين من خارج هذا النادي السياسي المغلق الذي بات غير قابل للصرف بفعل «الفيتوات» المتبادلة، وستكون الامور اكثر صعوبة من اي يوم مضى بعد ان اختار هؤلاء «الانتحار»، فتيار المستقبل لن يكون بمقدوره العودة الى مربع القبول «بالجنرال» مرشحا رئاسيا لان هذا الامر سيكون بمثابة الانتحار السياسي والشعبي، واعترافا صريحا بالهزيمة، في المقابل فان فريق 8آذار سيكون محرجا ايضا فهو لن يستطيع القبول باي تسوية تكون اقل من انتخاب شخصية «ملتزمة» بخيارها الاستراتيجة كـ «سليمان» فرنجية، وعندها لن يكون قادرا على اجراء هكذا تنازل مهما تعقدت الظروف الاقليمية او المحلية، وسيكون ترشيح «الجنرال» غير قابل للمساومة، لان اي قبول بمرشح تسوية آخر سيكون بمثابة من «اطلق النار على راسه»، بعد ان قدم لهم ترشيح رئيس تيار المردة على «طبق» من «ذهب».
يقال ان رئيس القوات اللبنانية سمير جعجع مرتاح «لفرملة» التسوية، وفي هذا السياق من المفيد التذكير بخبر ورد من بلدة باكوفا المسيحية العراقية حيث تم تاسيس تنظيم يسمى «دويخ نوشا» وهو يقاتل في القرية التي تقع على الحدود مع المناطق التي يسيطر عليها «تنظيم داعش» بعد ان تراجعت قوات البيشمركة التابعة لحكومة إقليم كردستان من عدد من القرى المسيحية ورفضت تقديم الحماية لها، ماركوس، أحد مقاتلي «دويخ نوشا» قال لمراسلة صحيفة كرستيان ساينس مونيتور الاميركية «لو حضرت بعد 15 عاما إلى هنا فلن تعثري على مسيحي واحد، فسألته المراسلة عن السبب الذي يدفع المقاتلين المسيحيين لحمل السلاح اذا، فيجيب ماركوس: »من أجل أحفادنا الذين سيسألونا يوما: لماذا هربتم؟ لماذا لم تقاتلوا؟ وسنقول لهم: لقد قاتلنا.
موقف مشرف هناك يستاهل ذكره في التاريخ، ولكن في لبنان هل تطمح بعض القيادات المسيحية فقط الى تسجيل موقف للتاريخ والقول انها «قاتلت» لمجرد ان يقرا الاحفاد انها لم تهرب من المواجهة؟ ولكن اي حرب واي مواجهة؟ انها معركة «طواحين هواء»، المرحلة لا تحتمل ترف تسجيل المواقف للتاريخ، بل يفترض اتخاذ قرارات تاريخية، المبادرة التي لم تقدّم كما ينبغي بسبب خلل جوهري يتمثل بقيادة الرئيس الحريري دفة التسويق، ولذلك جاء العرض الرئاسي بطريقة غير ملائمة، «العرض» يستحق «الدراسة»وعدم تفويت الفرصة اذا كانت متاحة، انخفاض مستوى حرارة الاتصالات لا يضر بل ربما يكون تصويبا لخلل الاندفاعة غير المبررة، الرياض اعطت الحريري «الضوء الاخضر»، العنوان العام يرضي طهران، ولكن التفاصيل تبقى في حارة حريك، اما «المفتاح» فيبقى في الرابية «وبيت الوسط»، اولا يجب على «زعيم» المستقبل ان يستكمل طرحه بترشيح علني لفرنجية بعد ان «رمى» خلفه مسألة قبول او رفض حلفائه المسيحيين، بعدها يبقى للجنرال وحده ان يفتح باب النقاش حول تحسين شروط التسوية انطلاقا من اعتبار فرنجية انتصارا لخياره الاستراتيجي، وما تبقى تفاصيل يمكن تجاوز عقدها. بعد لقاء فرنجية- عون بالامس ليس كما قبله، «غسل القلوب» بين الرجلين ضروري، ستكون «الصورة» لدى زعيم المردة اكثر وضوحا، لكن الثابت قبل اللقاء وبعده انه يدرك بان حزب الله بريء من «دم هذا الصديق»…
(الديار)