سقطت حرب الاستنزاف فما هي استراتيجية أميركا الجديدة؟ العميد د. أمين محمد حطيط
خلافاً لكلّ ما تحاول الولايات المتحدة الأميركية التظاهر به لجهة محاربة الإرهاب، فإننا كنا ولا زلنا نعتقد بأنّ أميركا اعتمدت الإرهاب أداة لإنفاذ مشاريعها السياسية، واشتدّ اعتمادها عليه بعد العام 2010 تطبيقاً للمفهوم الاستراتيجي للحلف الأطلسي الذي نصّ في ما نصّ عليه في صفحاته الـ13 التي صدرت عن قمة الحلف في خريف العام 2010. نصّ على إقفال الجبهات التي تعمل عليها الجيوش التقليدية للأطلسي وفتح جبهات من نوع آخر من المواجهات دون تسمية مباشرة، واكتُفي يومها بالإيحاء فقط باستعمال عبارة إدارة الأزمات التي «ستنشأ في الشرق الأوسط» البالغ الأهمية بالنسبة للحلف الأطلسي، وقدّر الباحثون المطلعون يومها أن المنطقة أمام موجة جديدة من العمل باستراتيجية القوة الناعمة التي يكون الإرهاب عمودها الفقري وتأكد الظن بعد أن عزز فرع «القاعدة» في العراق ثم نقل نشاطه إلى سورية بعد أن كانت استقدمته أميركا من أفغانستان بعد احتلالها العراق في العام 2003.
أميركا إذن وبقناعة تامة نقولها، ترى في الإرهاب جيشها السري الذي تواجه خصومها به في الميدان، ثم تدّعي أنها تواجهه وتحاربه، لكن حربها عليه قائمة فقط في الإعلام، وتسخّر الحرب ضدّه كجسر تعبر عليه للدخول إلى أيّ ميدان أو العودة إلى أي مكان ترى مصالحها في الوجود فيه.
وبهذا المنطق جاءت أميركا إلى العراق ومنه إلى سورية بطيرانها الذي أسندت إليه مهمة ظاهرة هي «قتال داعش» مع الإعلان يومها يوم أنشئ التحالف الدولي أن هذا القتال ليس من شأنه اجتثاث داعش أو ما يماثله، بل فقط لاحتواء داعش وضبط سلوكها مع تجاهل كلي لمن يماثلها في الإرهاب. وهي اضطرت للحضور المباشر بطيرانها ومع طيران من 63 دولة انتظمت خلفها فيما أسمته «التحالف الدولي ضد داعش» ثم اتبعت ذلك بالقول بان الحرب على داعش قد تتطلب 3 سنوات على الأقل وقد تصل إلى 10 سنوات. وهنا كانت الإشارة إلى قرار أميركي جديد للتعامل مع المنطقة: إنه «حرب استنزاف».
لقد غيّرت أميركا استراتيجيتها وقررت الدخول المحدود إلى الميدان، في العراق أولاً ثم إلى سورية، لأنها فشلت في خطط عدوانها المتتالية منذ العام 2011 ضد سورية وعجزت عن إسقاط الدولة أو تشتيتها بواسطة الإرهابيين وخشيت أن تستطيع الدولة السورية استعادة قوتها وتنقلب من الدفاع إلى الهجوم وتُجهز على الإرهاب وتجهض أحلام أميركا كلها، لذلك قررت اعتماد استراتيجية «حرب الاستنزاف» تلك ومنّت النفس أنها بهذه الاستراتيجية ومع وجود التحالف المخادع المدّعي الحرب على الإرهاب، تستطيع أن تخدّر العراق وتجعله يركن إليها في محاربة داعش وحمايته منها، في الوقت الذي تمكّن هي داعش من التمدّد في العراق والتمكّن في سورية.
لكن أميركا هذه لم تستطع أن تخدع الشعب العراقي ولا حكومته، ولم يركن إليها أحد من المعنيين بالدفاع عن السورية وكان سلوك في البلدين يواجه الخطة والخداع الأميركي مواجهة أدّت في العراق إلى محاصرة المشروع وفي سورية إلى إجهاض خطة «حرب الاستنزاف»، إجهاض كان بنتيجته تشكل عمل المنظومة الدفاعية المحكمة التي أرسيت في سورية وشاركت فيها إلى جانبها كل من إيران وروسيا وحزب الله، حيث إن كلاً منهم ألقى بالثقل المناسب للأخطار ما وضع أميركا مرة أخرى أمام حائط مسدود وفشل مؤكد.
ردّت أميركا على هذا التطوّر الاستراتيجي في سورية والذي ترجم في أقل من شهرين بامتلاك زمام المبادرة والانطلاق السريع المخطّط غير المتسرع والبعيد عن الانفعال والعشوائية، ردّت بكشف القناع أكثر عن دورها العدواني في سورية وقامت بسلسلة من الخطوات كانت تريد منها تحقيق أهداف تثبت وجودها وفعاليتها وحضورها المتقدم في كامل المسرح الاستراتيجي بشكل عام وفي سورية والعراق بشكل خاص.
وفي معرض الردّ الأميركي هذا، كان الضغط على أطراف المنظومة الدفاعية بخاصة روسيا وحزب الله ومعهما إيران وكان التسلل إلى الميدان والمكوث الفعلي المباشر فيه، من أجل تحقيق الأهداف التي ذكرنا وتعويض فشل خطة حرب الاستنزاف، حيث بدا لأميركا أنّ الأمور ستحسم في سورية بشكل خاص في مهلة لا تتجاوز الربيع المقبل، إن استمرت النجاحات في الميدان متصاعدة في الخط الذي تسير فيه.
ومن أجل ذلك كانت عملية إسقاط الطائرة الروسية المدنية ثم اتباعها بإسقاط طائرة عسكرية بصاروخ أميركي الصنع وبيد تركية مترافقاً مع انتشار عسكري أميركي في المنطقة الشرقية في سورية تحت عنوان التدريب، ثم انتشار عسكري تركي في الموصل العراقية، وأخيراً كانت التلويح بتهديد أميركي مباشر لكلّ من إيران وروسيا من اجل التراجع عن دعم الحكومة السورية في معركتها الدفاعية، وأخيراً كان القصف الأميركي على معسكر للجيش العربي السوري في دير الزور، من دون أن ننسى لائحة العقوبات الأميركية ضد حزب الله وشخصيات فيه لمحاصرته مالياً ثم لمحاصرته إعلامياً ولأجل ذلك تم إنزال المنار عن قمر العربسات بقرار سعودي خلفه أميركا.
قامت أميركا بكل ذلك لأنها تريد أن تضع حداً لرجحان الكفة لمصلحة سورية وحلفائها وحتى تعود إلى شبه توازن في الميدان يمكنها من الحصول على شيء من أهدافها في المنطقة. لكن مَن وجّهت إليهم الرسائل ردّوا بما صَدَم أميركا فكان الرد الروسي التصعيدي والمتقدّم إلى مزيد من الانخراط في العمل الدفاعي عن سورية، وتصرّف حزب الله وإيران حيال ملفات تعني أميركا والسعودية في المنطقة، بما يؤكد أن أحداً لن يرضخ لهما وان المواجهة مستمرة والنجاح فيها لن يمنعه تهديد أميركي.
وفاقم المأزق الأميركي هنا الانهيار العسكري لمكونات العدوان على اليمن وانكشاف عجز هذه المكوّنات عن إحداث خرق ما في المشهد أمام ضربات الجيش اليمني وأنصار الله.
لكل ذلك يبدو أنّ أميركا تتجه اليوم للعمل باستراتيجية جديدة تقوم على ما يلي:
1 ـ التدخل العلني المباشر في الميدان بقوات عسكرية برية تدعمها أميركا، ومن أجل ذلك يتصاعد الحديث عن إنشاء قوات تحالف دولي من عناصر عربية وإسلامية وبقيادة وتدريب وتنظيم أميركيين، تعمل بمساندة من القوات الجوية للتحالف الأميركي، قوات تشكل تحت عنوان محاربة داعش وتكون مهمتها الحقيقية غير ذلك.
2 ـ الاحتفاظ بمساحة من الأرض العراقية والسورية تمتدّ من الموصل والأنبار في الشمال والشرق إلى دير الزور والرقة في الجنوب والغرب ولأجل ذلك كان القصف الأميركي للمعسكر السوري في الرقة من أجل تمكين داعش من مهاجمته وإخراج الجيش العربي السوري من المنطقة.
3 ـ إغراء الأكراد ببلورة كيان خاص في سورية بما يتكامل مع المشروع الأميركي، فيكونوا إلى جانب المنطقة المتقدمة الذكر ورقة تفاوضية تستعمل في حال تقاسم النفوذ أو في حال تقسيم الأرض، تقاسم يقطع التواصل والاتصال بين مكوّنات المحور المقاوم المشرقي الممتد من روسيا إلى المتوسط مروراً بإيران والعراق وسورية. فأميركا بحاجة إلى هذه المنطقة الفاصلة لمنع تشكل القوة الاستراتيجية لدى هذا المحور.
4 ـ أما في السياسة، فإن أميركا ترغب في أن تنتزع على طاولة التفاوض ما عجزت عنه في الميدان، فإن لم تستطع فإنها ستعطل الحل السياسي ما استطاعت.
إنها إذن استراتيجية أميركية جديدة اعتمدت، كما يبدو على عجل، لأن النجاح في سورية فاجأ الجميع، ولذلك لا نرى فرصاً كبيرة لنجاح المشروع الأميركي الجديد في الميدان، بخاصة ان القوة العسكرية المفترض تشكيلها تبدو أقرب إلى الوهم منها إلى الحقيقة، وان الزخم الهجومي لسورية وحلفائها في الميدان والسياسة هو أقوى من أن توقفه المناورات الأميركية الخادعة والخائبة.
(البناء)