سوريا موحّدة والعراق ينقسم الياس فرحات
أثار الدخول المفاجىء لقوة عسكرية تركية الى الموصل في العراق يقدر عديدها بألف ومئتي جندي اسئلة ومخاوف من الاهداف الحقيقية التركية لهذا الدخول .
بالطبع لم يكن رئيس الوزراء داود اوغلو مقنعا عندما قال ان دخول القوة جرى بطلب من محافظ الموصل وانها تبدل قوة كانت تعمل اساسا في تدريب البشمركة. حرك هذا الدخول مخاوف التقسيم في المنطقة وعادت الى الذاكرة معاهدة سيفر وسلخ الاراضي عن الدولة العثمانية المنهزمة في الحرب العالمية الاولى وانشاء دول جديدة على انقاضها.
من المعروف ان الحرب العالمية الاولى التي مضى عليها قرن كامل، انتهت الى انهيار كامل لامبراطوريتين: الاولى النمسوية – المجرية التي نتج عن انهيارها نشوء دول جديدة مثل بولندا وفنلندا وتشيكوسلوفاكيا ودول البلطيق لاتفيا وليتوانيا واستونيا، والثانية الامبراطورية العثمانية التي نتج عن انهيارها نشوء دول هي سوريا والعراق والحجاز. اما يوغوسلافيا فقد نشأت بجمع اراض من الامبراطوريتين المهزومتين .
كانت الموصل مركز ولاية عثمانية تضم كردستان وعندما اعطيت للعراق عام 1926 استاء الاتراك وقال اتاتورك: “عندما تملك تركيا القدرة على استعادتها فستفعل”. وفي عام 2007 وفي اكبر تلميح حديث الى طموحات تركيا باستعادة الموصل قال الرئيس السابق عبد الله غول: “لقد اعطينا الموصل عام 1926 الى عراق موحد، والان نريد امامنا عراقا موحدا”. وهو يقصد انه اذا كان العراق مشرذما يجب ان تعود الموصل الى تركيا.
لعلها اول اشارة ميدانية للتقسيم في المنطقة. وفي اشارة اميركية سابقة، اوصت لجنة الشؤون الخارجية في مجلس الشيوخ الاميركي في عهد الرئيس جورج بوش الثاني بتقسيم العراق ثلاث دول شيعية وسنية وكردية، وكان يرأسها في ذلك الحين نائب الرئيس الحالي جو بايدن.
اعطى الدخول العسكري الروسي الى سوريا املا بابقائها موحدة خصوصا ان بيان فيينا الاخير حول الازمة السورية نص صراحة على وحدة سوريا. اتخذت روسيا خطوات لتوسيع انتشارها انطلاقا من حميميم جنوب اللاذقية والتمركز في مطار الشعيرات جنوب حمص في المنطقة الوسطى وهناك استعدادات للتمركز في مطار تيفور في بادية الشام على طريق حمص – تدمر، وهذه اشارات ميدانية تؤكد على دعم روسيا العملي للدولة المركزية السورية واستبعاد التقسيم.
يغيب الحديث عن تقسيم سوريا بشكل لافت كما تغيب المطالبات بتقسيم سوريا من قبل الحكومة وجميع القوى السياسية المعارضة ويقتصر كلام المعارضة على مطلب اسقاط النظام ورحيل الرئيس الاسد، وقد تراجع هذا الحديث اخيرا ووصل الى قبول ابرز داعمي المعارضة وزير الخارجية الاميركي ومن بعده الفرنسي بقاء الاسد.
في المقابل يحضر دائما الحديث عن تقسيم العراق. المكون الكردي شبه جاهز في كردستان العراق لكنه يعاني من مشكلات داخلية ظهرت في عجزه عن التجديد لمسعود البارزاني في رئاسة الاقليم لانه لم يؤمن الغالبية البرلمانية اللازمة بسبب انقسام القوى السياسية الكردية، وهو الآن بمثابة رئيس تصريف اعمال. ويعاني الكرد ايضا من مشكلات حول مصير كركوك التي تضم خليطا من العرب والكرد والتركمان، ولكل مكون مرجعيته الاقليمية وحلفاؤه في الداخل العراقي، كما يواجهون معارضة تركية في ضم سنجار الايزيدية ومعارضة شيعية في ضم طوز خورماتو ذات الاقلية التركمانية الشيعية.
الولايات المتحدة اللاعب الدولي الاكبر، تعمل كضابط ايقاع. هي تحافظ على اقليم كردستان في وضعه الحالي اي الاستقلال الذاتي لكنها تحذر من ان تؤدي المشاعر الوطنية الكردية الى اتصاله بشريط “روجافا” اي كردستان سوريا ونشوء كيان كردي سوري عراقي يهدد بضم كرد تركيا وتقسيم الكيان التركي الحالي. كما انها تفضل انشاء اقليم سني في الانبار وصلاح الدين ونينوى لكنها تخشى سيطرة “داعش” وباقي المتطرفين على هذا الاقليم الذي يفتقر الى الموارد الاقتصادية اللازمة للحياة ويكون مكرها على الاعتماد على المكون الشيعي.
تبدو الولايات المتحدة مؤيدة عمليا للوحدة السورية لكنها لا تبدو متحمسة لعراق موحد. وتغاضت عن تحركات “داعش” التي بلغت ذروتها في حزيران 2014 باحتلال اربع محافظات هي نينوى والانبار وصلاح الدين وديالى وقسم من محافظة بابل.
وترى الولايات المتحدة ايضا ان الاستقلال الذاتي في كردستان العراق وازدهار الاقليم الاقتصادي والثقافي يجذب الكرد في ايران ويسبب مشكلات للعدو السابق والخصم والمنافس الحالي ايران.
ازاء هذه التعقيدات والتشابكات نرى علاقة ايرانية تركية براغماتية تحرص على عدم التصادم بين البلدين منذ معاهدة قصر شيرين عام 1635.اخيرا لم نسمع موقفا ايرانيا عالي النبرة من دخول قوات تركية الى الموصل، كما ان ايران مررت بهدوء موقفا لافتا من الازمة الروسية التركية آخره لعلي اكبر ولايتي الذي قال: “ليس مناسبا استمرار التوتر بين روسيا وتركيا ولن نكون مع اي منهما”. وهو موقف يختلف كثيرا عن موقف حليفها السوري ناهيك عن الموقف الروسي المعني مباشرة.
يؤدي دخول تركيا الى الموصل الى اضعاف المكون السني في العراق ووقوعه تحت الهيمنة التركية فهل ترضى السعودية وصول النفوذ التركي الى حدودها مع الانبار؟
وسط انهاك الدولة السورية جراء الحرب التي نجم عنها دمار كبير وخسائر بشرية وحجم معاناة كبير، وتراجع سلطتها على مناطق واسعة، نرى هذه الدولة موجودة بحكومتها وادارتها الخدمية التي لا تزال تعمل ضمن مناطق “داعش” و”القاعدة” كما ان جيشها بقي موحدا ولم ينقسم رغم الخسائر الضخمة التي اصيب بها من احتلال لمواقع ومطارات وتدمير عتاد ومقتل اعداد كبيرة من العسكريين بالاضافة الى ديبلوماسيتها التي لا تزال فاعلة واعلامها الحاضر بامكاناته واستمرار عجلة التشريع والادارة.
اما في العراق فتبدو الصورة مغايرة. مظاهر الوحدة خافتة والدولة، وهي اساسا فيديرالية، ضعيفة من دون “داعش” ومعها .المواقف السياسية التي يعلنها كل من رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء ورئيس مجلس النواب لا تبدو صادرة عن ادارة واحدة في بلد مأزوم.
الخشية من الدخول التركي هي ان تقسيم العراق بات واقعا وتركيا تسعى لحماية مصالحها، فيما الوجود الروسي في سوريا يبدو مطمئنا بأن الدولة السورية الموحدة باقية وان استعادة سلطتها بشكل ما باتت قريبة.
بعد مئة عام على الحرب الاولى التي افرزت دولا جديدة، جرت تعديلات على هذه الدول في البلقان والبلطيق بعد انتهاء الحرب الباردة فهل جاء دور المنطقة العربية في اجراء تعديلات بعد “الربيع العربي” الذي انهى النظام العربي القديم؟