الخليجيون يدفعون فاتورة النفط ملاك حمّود
الدول النفطيّة لن تعود إلى سابق عهدها. ستستمرّ أزمة انهيار أسعار النفط، التي يشهدها العالم منذ منتصف العام الماضي، لسنوات مقبلة، لا تقلّ عن ثلاث. في ظلّ هذه الأزمة يترتّب على دول الخليج، إجراءات استثنائيّة، لا تنتهي عند حدّ التقشّف، بل تقتضي، فضلاً عن ذلك، ترتيب البيت الداخلي، السعودي على وجه الخصوص، لتحمّل أعباء العجز في الموازنة، والاستعداد للبحث عن بدائل النفط في المدى القريب .
تدرك دول مجلس التعاون الخليجي عواقب الأزمة الحاليّة، وهي تتصرَّف على قاعدة أنَّها لن تنتهي في المدى المنظور. لذا، تتجه هذه الدول إلى إجراءات تقشّف تشمل الحدّ من النفقات، فضلاً عن محاولتها اعتماد خطوات لزيادة مداخيلها غير النفطيّة وخفض الدعم على المشتقات النفطية، وإعادة تقييم رأس المال والإنفاق، وتقليص فاتورة الأجور.
إلَّا أنَّ «الإصلاحات» الخليجيّة، لا تزال دون المطلوب، ودونها عواقب اجتماعيّة كبيرة، خصوصاً حين تبدأ جباية الضرائب، لا سيما تلك التي أقرّت يوم أمس على القيمة المضافة.
يُتوقَّع أن تُسجِّل دول مجلس التعاون عجزاً يبلغ 180 مليار دولار في نهاية العام الحالي، مع الترجيح أن يستمرّ شحّ إيرادات النفط لأعوام مقبلة، وفق تقديرات صندوق النقد الدولي الذي نصح الخليجيين باتباع منهج تدريجي لتطبيق الإصلاحات الماليّة وتنويع مصادر الدخل.
حالة من التشاؤم خيّمت على تقرير صندوق النقد الصادر في تشرين الأول الماضي، إذ توقَّع عجزاً كبيراً لاقتصادات السعودية والبحرين خصوصاً، بينما يبدو الاقتصاد القطري والكويتي والإماراتي الأكثر صموداً أمام الانخفاض الحادّ في أسعار النفط.
فاتورتا الحرب.. والنفط
تحتاج السعودية إلى ألَّا يقلّ السعر عن 106 دولارات للبرميل الواحد، حتى تحافظ على توازن اقتصادها الذي يسيطر النفط على أكثر من 90 في المئة من صادراته.
وفيما كان الفائض في الموازنة السعودية يتجاوز 20 في المئة أحياناً خلال السنوات الماضية، يُتوقع أن يلامس عجز الموازنة، مع نهاية العام الحالي، نسبة 20 في المئة من إجمالي الناتج المحلي (أكثر من 100 مليار دولار)، وفقاً لتقديرات الصندوق الذي حذَّر من نفاد الاحتياطيات النقدية في المملكة خلال أقل من خمس سنوات إذا لم تقم الرياض بإجراء خفض كبير في الإنفاق.
أما لجهة الربط الصارم لعملتها بالدولار، فيعطي مؤسّس صندوق التحوط «إس إل جيه بارتنرز» ستيفن جين مثالاً، إذ يقول إنَّه «بالنسبة إلى روسيا، كانت أفضل وسيلة على الأمد القصير، للتأقلم، تتمثّل في خفض قيمة الروبل. وإذا انتقلنا إلى السعودية، فسنجد الصدمة نفسها، لكن لا يمكن للمملكة خفض قيمة العملة في ظلّ ربطها بالدولار»، الآخذ في التصاعد، وهو ما يحرم الاقتصاد من الدعم الذي يوفّره انخفاض قيمة العملة.
هذا يعني عملياً أنَّ مرحلة الاستقرار والتقدّم في كل المؤشرات الاقتصادية الكليّة قد انتهت إلى غير رجعة، ما يعني أنَّ الاقتصاد السعودي سيشهد حالة من الانكماش والتأثّر السلبي على مختلف الأنشطة الاقتصادية، نظراً إلى الدور الذي يلعبه الإنفاق الحكومي في تنشيط الاقتصاد، واعتماد القطاع الخاص في معظم أنشطته على هذا الإنفاق.
كما انخفض احتياط النقد الأجنبي لدى المصرف المركزي السعودي ما بين منتصف العام 2014 ومنتصف 2015 (من 746 مليار دولار إلى 669 مليار دولار)، وذلك في ظلّ اتباع الحكومة السعودية سياسة السحب من احتياطيات النقد الأجنبي لتغطية عجز الموازنة.
وبما أنَّ السعودية قادرة على تحمّل الاستنزاف المالي لوفرة احتياطاتها النقدية، يقول الأمين العام لاتحاد المصارف العربية، وسام فتّوح، في حديث إلى «السفير»، إنَّ «الاحتياطي الموجود لدى السعودية يستطيع أن يقوم بالحمل»، في وقت يؤكّد أنَّ استثمارات المملكة لن تتأثر على المدى القصير، إلا أنَّها حكماً ستتأثّر في وقت لاحق.
في إطار التقييم الرقمي، يتبيّن أنَّ الناتج المحلي الإجمالي للسعودية يتّجه إلى التراجع في العام 2015 ليصل إلى 644 مليار دولار، أي أنَّ التراجع بين أداء الناتج في العامين 2014 و2015، يصل إلى نحو 102 مليار دولار (13.6 في المئة).
إلى جانب كل ذلك، يتحدّث فتّوح عن «فاتورة اليمن» التي تدفعها السعودية في حربها المتواصلة على هذا البلد منذ أكثر من تسعة أشهر، والتي أنفقت عليها ما يزيد على ثمانية مليارات دولار، وفق التقديرات الأولية. ذلك فضلاً عن مشاركتها ضمن «التحالف الدولي» الذي يحارب «داعش» بقيادة الولايات المتحدة.
الحلّ بالتقشّف
«السعودية مضطرة إلى التخلي عن نفقات ما للتغلب على واقع انهيار أسعار النفط»، هذا ما يخلص إليه تقرير للقسم الاقتصادي في شبكة «سي ان ان» الأميركية. لكنَّ الخبير الاقتصادي هنري سميث يستبعد أن «تقوم الرياض برفع الضرائب على المواطنين أو اتّخاذ إجراءات تمسّ الجانب الاجتماعي، تجنباً لأيّ حراك مثل ما حدث في دول عربية العام 2011». ويعتبر أنَّ خطوة من هذا القبيل «في محيط يتّسم بعدم الاستقرار ستكون بمثابة مغامرة سياسيّة».
إلا أنَّ السعودية بدأت فعلاً بهذه الخطوات عبر تسريح عددٍ غير معروفٍ من موظفيها الجُدد خلال الشهرين الماضيين، كما أوقفت التوظيف في الأجهزة الحكومية، بناءً على الأمر الملكي الذي سُرِّب في آب الماضي، ودعا فيه الملك سلمان إلى «إيقاف التوظيف والعلاوات والترقيات» حتى نهاية موازنة العام الحالي في 30 كانون الأول.
وللدلالة على الأزمة التي تعيشها المملكة، أعلن نائب وليّ العهد السعودي محمد بن سلمان، في مقابلة مع «نيويورك تايمز»، قبل أسبوعين، أنَّ المملكة قد تخفض دعم الطاقة والمياه للمواطنين الأغنياء وتفرض ضريبة على القيمة المضافة ورسوماً على المنتجات المضرة بالصحة مثل السجائر والمشروبات السكرية. كما اعتبر أنَّ «التحديات الرئيسية تتمثّل في اعتمادنا المفرط على النفط وفي طريقة وضع الميزانية وإنفاقها».
ويعتبر فتوح في حديثه، أنَّ فرض الضريبة على القيمة المضافة والضرائب على الأغنياء، كان اقتراحاً تحدّث عنه وزير الخارجية السعودي مؤخراً، مؤكداً عزم المملكة السير في فرض الضرائب جديا.. «ولكن فرض الضرائب بالتزامن مع أزمة انخفاض أسعار النفط، يمكن للبعض ردّه إلى الأزمة، إلا أنَّ المملكة كانت تفكر بهذا من قبل».
المتضررون أقلّ
بادرت الإمارات، مثلاً، إلى تطبيق خطوات إصلاحية في حزيران الماضي، عبر تحرير أسعار الوقود ورفع تعرفة الكهرباء في أبو ظبي، في ما يتوقع أن يوفّر مئات مليارات الدولارات. كما خصّصت ثمانين مليار دولار لمشاريع غير مرتبطة بالنفط.
الكويت بدأت من جهتها، في بيع بعض مشتقّات النفط بأسعار السوق منذ مطلع 2015، فيما خفضت الإنفاق بنسبة 17 في المئة، وهي في طور زيادة أسعار الوقود وسعر المياه والكهرباء.
قطر، وعمان والبحرين، أعلنت، أنَّها في طور دراسة إجراءات لتقليص الإنفاق وخفض الدعم.
وسيكون كافياً بالنسبة إلى الكويت، مثلاً، أن يباع برميل النفط بـ49 دولاراً، بينما لن تتأزم قطر إذا بيع البرميل الواحد بـ56 دولاراً، أمّا الإمارات فتحتاج إلى أن يكون الثمن 73 دولارا للبرميل.
لا تبدي مديرة صندوق النقد الدولي كريستين لاغارد تفاؤلاً بقرب الانفراج، إذ تتوقَّع أن تبقى أسعار النفط عند مستوياتها المتدنية لسنوات مقبلة. ويقول فتّوح إنَّ أسعار النفط ستستمر ما بين 40 و60 دولاراً على الأقل للسنوات الثلاث المقبلة، إلا أنَّ المملكة تستطيع أن تتحمّل هذا الانخفاض لسنوات خمس.
(السفير)