أوروبا تريد حالة طوارئ لاعتقال «الأفكار الانتحارية» وسيم ابراهيم
حملة محاربة الإرهاب والتطرف الأوروبية أمام معضلة حقيقية: كيف يمكن رصد وملاحقة واعتقال الأفكار الخطيرة الملطخة بالدماء والعنف، ثم مروّجيها وحامليها؟ المسألة لم يعد ممكناً تجاهلها، فهي تتصل بجرائم إرهاب وجرائم كراهية، يشارك في تغذيتها خطاب لا تطاله يد العدالة، يتجول بحرية في فضاء الإنترنت. ما دامت المسألة تتعلق بارتفاع مستوى التهديد، فالحل المطروح لا يفرّق بين عوالم متداخلة: إعلان حالة طوارئ في الفضاء الافتراضي، موازية لحالة الاستنفار الأمني الميداني.
الأمر يحتاج أيضاً، في الانترنت، نشر شرطة وجنود وبنادق، لإيقاف المحتوى الإرهابي والمتطرف. كل جانب هو إشكالية بحد ذاتها، يضاف إليها أن المشاع الهام هنا ليس تحت تصرف الدول، كما حال الشوارع والساحات العامة. شركات الانترنت لديها تحفظات عديدة، فهي معنية لجهة إضرار الطوارئ بأرباحها وتحميلها أعباءً ليست معنية بها عادة.
القضية شغلت اجتماع وزراء العدل الأوروبيين قبل أيام. كان وزير عدل لوكسمبورغ فيليكس بيراز أحد من قادوا التداول، فبلاده تتولى الآن الرئاسة الدورية للاتحاد الأوروبي. رغم الحاجة لتعاون شركات الانترنت الكبرى، لكنه انتقدها بالقول إن عليها الانتقال «من السلبية إلى لعب دور فاعل».
رداً على أسئلة «السفير»، رأى بيراز أنه حينما يتعلق الأمر بالإرهاب والعنف لا يعود هناك فرق بين عالم افتراضي وآخر واقعي: «يجب أن يكون لدينا حوار قوي مع مزودي الانترنت، لدينا قوانين وقواعد تبيّن أن خطاب الكراهية غير مسموح في الحياة العادية، فلهذا هو ليس مقبولاً أيضاً إذا تم على الانترنت»، قبل أن يضيف «نعتقد أن المزودين لديهم مسؤولية تجاه أي محتوى يُنشر على مواقعهم، لذا يجب أن يتحملوها في أوروبا بالتأكيد».
هذه الشكوى تظهر نوعاً من نفاد الصبر. مر عام تقريباً على إطلاق المداولات بين المسؤولين الأوروبيين، وممثلين عن الشركات الكبرى، «غوغل» و «تويتر» و «فايسبوك» و «مايكروسوفت». لكن حتى الآن، لم يصل الجانبان إلى تقييم واحد للمخاطر وكيفية مواجهتها، ما يعني تعطيل مكافحة فعالة يشدد عليها الأوروبيون. مباحثات الطرفين انطلقت سابقاً كأحد تجليات حالة التأهب ضد تهديد «الجهاديين» الأوروبيين، لكن القضية الآن تتسع لتشمل ملاحقة نشر الأفكار التي تدعو لجرائم كراهية.
هذا الجانب يوصل مباشرة إلى النقاش الأوروبي حول تدفقات اللاجئين. ألمانيا سجلت مئات الاعتداءات، سواء على مرافق الاستقبال أو على اللاجئين مباشرة. قال وزراء الداخلية إن هذا الانتشار غير المسبوق لجرائم الكراهية يمثل وصمة «عار»، خصوصاً أن البلد حاول إشاعة صورة الترحيب والاحتضان. حرّك ذلك مخاوف الهاربين من الحرب والمآسي. بات اللاجئون السوريون يضعون «النازيين الجدد» على قائمة المخاطر التي عليهم تفاديها، لذلك يسألون عن المدن والأقاليم الالمانية التي يجب أن يتفادوا الذهاب إليها.
التحريض ينتشر علانية على الشبكات الاجتماعية، ليبقى المأزق في تحديد ما هي الكراهية المشروعة، تحت مظلة حرية التعبير، ما هي الممنوعة قضائياً. المفوضية الأوروبية حاولت إقامة الحد الفاصل، معتبرةً أن خطاب الكراهية الذي تجب معاقبته «لديه الإمكانية لإطلاق جرائم الكراهية والعنف».
ليس واضحاً كيف يمكن أن يعمل ذلك التحديد على أرض الواقع. مع انتشار الاعتداءت ضد اللاجئين، نشرت صحيفة «بيلد» الالمانية رسائل كراهية، على امتداد صفحتين، تم تداولها على الانترنت. أحد التعليقات المنشورة، قال مخاطباً اللاجئين «اذهبوا إلى أوشفيتز وبوخنفالد (معسكرات اعتقال نازية)، هناك مكان كافٍ، والأفران فقط تحتاج إلى تسخين». هل تجاوز التعليق الخط المسموح، وهل يمكنه إطلاق جرائم كراهية؟
المنطق يقول إن من يفترض معاقبتهم سيكونون قوافل، خصوصا مع الانتشار المتنامي لشعبية اليمين المتطرف. إذا ارتكب أحد أنصاره جريمة كراهية، وقال إنه اندفع لها حينما سمع أن «كل الإرهابيين هم مهاجرون.. مسلمون». كيف سيتعامل القضاء مع رئيس الوزراء المجري فيكتور أوروبان الذي قال تلك الجملة؟
على كل حال، عدم الرضى عن استجابة شركات الانترنت كان واضحاً في حديث المفوضة الاوروبية للعدل فيرا جوروفا. قالت مدافعة عن أحقية مطالبهم «نشهد انتشار عدم تسامح متزايد، وهو يفتح الباب للعنف والكراهية… لذلك لديهم (شركات الانترنت) مشكلة، وعندما يكونون جزءاً من المشكلة، يجب أن يكونوا جزءاً من الحل».
أساس المرافعة التي يحملها ممثلو عمالقة الانترنت بات واضحاً. الهامش الكبير الذي يتحركون فيه هو التفسيرات المتفاوتة لحرية التعبير. مقارّهم في الولايات المتحدة، حيث المجال أوسع لانتشار «الكراهية» في عباءة الحريات الفضفاضة، لكن الأمر يختلف في الدول الأوروبية التي يعملون فيها ويجنون أرباحاً طائلة.
الصعوبات الكبيرة لحل هذه الخلافات أقر بها مورغان جونسون، وزير العدل والهجرة السويدي. حينما سألته «السفير» عن ذلك، قال إن الهدف واضح «نريد تنظيف الانترنت، وهناك طرق شرعية لمحاربة ذلك المحتوى» المستهدف، لكنه لفت إلى المأزق الذي يواجههم معتبراً أن «القضية تدور حول حقوق أساسية، مثل حرية التعبير، وهي جوهرية لدى دولنا، لذلك القرارات التي علينا اتخاذها هي حساسة للغاية».
تكلفة إطلاق حالة طوارئ على الانترنت تبقى أيضاً محط خلاف. حديث الأوروبيين عن مسؤولية تتحملها الشركات، يعني أنها المعنية بتمويل حملة ملاحقة المحتويات الخطيرة وحذفها. ليست مغرمة بتحمل كل التكاليف، لكن حتى مع تحمل الأوروبيين لتلك المسؤولية يبقى تجاوبها «غير مرضٍ». لدى وكالة الشرطة الأوروبية «يوروبول» وحدة خاصة بمراسلة تلك الشركات، للتبليغ عن محتويات تتصل بالتهديد الإرهابي. النتائج يعتبرها مسؤوله نجاحاً، لأن الشركات تجاوبت بنسبة 80 في المئة. مع ذلك، يجب التمعن في نسبة 20 في المئة التي تم رفض إزالتها، مع أن موظفين مختصين اعتبروها موادَّ تغذي الإرهاب!
بعد نقاش لأشهر، ضاق الأوروبيون بالحجج المتكررة التي حملتها الشركات المعنية. وزير العدل الالماني هيكو ماس قال إن تلك الشركات «ملزمة بإزالة المحتوى الخطير»، معتبراً أنه لم يعد مقبولاً التذرّع بحمل «ثقافة أميركية لحرية التعبير».
لكن الوزير الالماني لم يلغ مسؤولية الحكومات. حينما سألته «السفير» عن كيفية التعامل مع الدعاية المتجددة لتجنيد «الجهاديين» وتنفيذ الاعتداءات، قال إنه «يحدث كثيراً خلال محاربة الجريمة والإرهاب أن سلطات الدولة متأخرة عن التطورات»، قبل أن يضيف «حينما يتم اعتراض تدفق المعلومات، يبحث المجرمون عن صيغ أخرى للتواصل، لذا يجب أن نتأكد من تحديد مسارات التواصل الجديدة».
ما يزيد خطورة القضية أنها تمس أيضاً أفكاراً انتحارية ودموية. لا ينشر المتطرفون فقط الدعاية للإرهاب، بل أيضا يتداولون وسائل الاعتداء الممكنة وصنع المتفجرات اليدوية والستر الناسفة، كتلك التي استخدمها بعض منفذي هجمات باريس.
التحدي الآخر هو التجريم، السوق للعدالة والإدانة. مسار عمل الأوروبيين يتضمن أيضاً تكييف القانون الجنائي ليشمل الفضاء الالكتروني. المسار سيكون طويلاً بدوره، رغم الإلحاح المرتبط به. بروكسل تعتبر أن جمع الأدلة الالكترونية واعتمادها مسألة حاسمة، كما أكدت مفوضة العدل الاوروبية: «المدعون العامون يحتاجون لأن يكونوا قادرين على استخدام أدلة مثل الرسائل المتداولة على الشبكة الاجتماعية كأدلة الكترونية، فهذا مهم جداً لمحاربة الإرهاب، خاصة بعد الهجمات الأخيرة». ذلك التشديد مفهوم طبعاً. أحياناً لا تتوافر غير الأدلة الالكترونية، خصوصا بالنسبة لـ «جهاديين شبحيين»، يتسللون بطرق معقدة، ولا يمكن تتبع أثرهم إلا عبر خطواتهم فوق الأرض الالكترونية، رسائل وتعليقات.
(السفير)