أوروبا ترتعب من الآتي: استنفار سياسي يلد «سجل المسافرين»! وسيم ابراهيم
هكذا تجيب أوروبا على هواجس صغارها: الأشرار الطلقاء والزهور المضادة للرصاص!
أكثر من أي وقت مضى، يدرك الأوروبيون الآن أن تدفقات اللاجئين والتهديدات الإرهابية باتتا تشكلان خطراً غير مسبوق على الاتحاد الأوروبي. ليس على أمنه فقط، فقصة جرّ القضية إلى مضمار الأمن لعبة سياسية تليق باليمين المتطرف، والمخاطر تمسّ المشروع الاوروبي برمّته.
الرقابة الحدودية باتت تقطع أوصال منطقة «شنغن» للتنقل الحر، فيما تحاول بروكسل اختراع مسوغات لتمديدها، بدل القول إنها معلّقة أو مشلولة. أمام الاستعصاءات، تُلقى المسؤولية على الأضعف: اليونان تُهَدَدُ بالإقصاء من «شنغن»، مثلما هددت سابقاً بالخروج من «اليورو»، كما أن اللاجئين يتركون أمام الحواجز ثم يصنفون انتقائياً، قبل أن تجرهم الحساسيات إلى الصدام في ما بينهم.
خلال كل ذلك، تركيا أثبتت على نفسها، بفجاجة استثنائية، أنها كانت تتاجر باللاجئين. لم تلجأ حتى إلى بعض التجميل، بل باشرت اعتقال المئات منهم يومياً. حصل ذلك بعد أشهر من التجاهل المقصود لعبور اللاجئين الحدود البحرية، ليصحو النشاط التركي في الصباح التالي لعقد الصفقة حولهم مع الأوروبيين، بعدما قالوا بوضوح إنهم لم يدفعوا أي ثمن حتى يروا بضاعة التطبيق التركي أمام أعينهم.
التهديد الإرهابي على حاله. خطر تكرار هجمات باريس لا يزال حاضراً، فيما بلجيكا وفرنسا لم تتمكنا من الإمساك بالمطلوب الأول أو تفكيك كامل الشبكة المتورطة في الهجوم. في هذه الأجواء المشحونة، صار الاستنفار السياسي في درجة قصوى أيضاً. ليس لتحقيق خطوات جوهرية، تطوق التهديدات تطويقا مقنعا، بل للخروج بقرارات تقول إن الحكومات الأوروبية المعنية تحقق نتائج.
هكذا، خرج وزراء الداخلية الأوروبيون، خلال اجتماعهم في بروكسل أمس، باتفاق حول إنشاء «سجل المسافرين» ليغطي كل الرحلات الداخلية والخارجية في الاتحاد الأوروبي. هذا النظام يُفترض به أن يعمل بمثابة آلية إنذار مبكّر. سيشمل جميع المعلومات المتعلقة بالمسافرين، بعدما صارت جميع شركات الطيران التي تسير رحلات إلى دول «الاتحاد» مضطرة لإرسال قائمة بيانات أسفارها أوتوماتيكيا.
سيكون السجل خزان معلومات، يحتوي على كل التفاصيل الشخصية للمسافرين، بما فيها عناوينهم وحساباتهم المصرفية. هذه المعلومات ستُرسل إلى جهاز أوروبي جديد، هو وحدة تنسيق سجل المسافرين. هناك سيتم تدقيقها مباشرة، على الدوام، مع كل الأسماء المدرجة على اللوائح السوداء في الدول الاوروبية، سواء بالنسبة للمطلوب اعتقالهم أو المشتبه فيهم الخطيرين. الهدف الأساس هو ملاحقة آلاف «الجهاديين» الأوروبيين في العراق وسوريا، بعدما استطاع بعضهم العودة، التحرك بحرية، ثم التخطيط لاعتداءات إرهابية وتنفيذها.
الاتفاق السياسي تلزمه أيضاً مصادقة البرلمان الأوروبي، فالأخير عارض الخطوة لسنوات، قبل أن ينحني لضغوط شديدة من الحكومات الأوروبية. الأخيرة حمّلته مسؤولية إدامة قصور أمني خطير، وسط صراخها الذي ملأ المنابر وقاعات التفاوض. الاتفاق السياسي جاء نتيجة تسوية مع البرلمان الأوروبي، لذلك فمسألة مصادقته عليه تبدو محسومة. سيتم الاحتفاظ ببيانات المسافرين لمدة نصف سنة، ثم سيتم إخفاؤها لأربع سنوات ونصف سنة قبل حذفها. جاء ذلك مراعاةً لمطالب البرلمان بأولوية مراعاة الخصوصية، عبر تقصير مدة حفظ البيانات ما أمكن.
وزير داخلية لوكسمبورغ إيتان شنايدر كان بين المفاوضين الرئيسيين، فبلاده تتولى الآن الرئاسة الدورية للاتحاد الأوروبي. خلال حديث لـ «السفير»، قال إنهم كانوا يعملون تحت ظل إخفاق لا رجعة بعده: «إنها خطوة مهمة لمحاربة الإرهاب، صحيح أننا اتخذنا إجراءات عديدة في الشهر الماضي، لكن سجل المسافرين خطوة أساسية استطعنا إنجازها بعد خمس سنوات من المفاوضات مع البرلمان الأوروبي»، قبل أن يضيف «أعتقد أنها كانت الفرصة الأخيرة أمامنا للحصول على اتفاق حول هذه القضية».
كل مرة طُرح موضوع سجل المسافرين، كان معظم البرلمانيين الأوروبيين يتساءلون عن الغاية الحقيقية. كانوا يعددون أمثلة كثيرة، لمنفذي الهجمات الأخيرة، ما كان ليفيد في إيقافها سجلّ بيانات كهذا. رددوا أن الحل الفعلي هو تبادل أكثف، أو بالأحرى تبادل أقل سوءاً، للمعلومات الاستخبارية بين الأجهزة الأوروبية. حينما تبنت المفوضية الأوروبية فكرة إنشاء وكالة استخبارات أوروبية، من حيث المبدأ، صارت أشبه بأضحوكة.
وزير لوكسمبورغ لم يستطع منع ابتسامته العريضة أيضاً. سألته «السفير» لماذا تبدو تلك الفكرة خيالية، فأجاب «أعتقد أنها فكرة جيدة، لكن شخصياً أعتقد أيضاً أنه من الوهم الظن بأنه يمكننا إنجازها في السنوات المقبلة»، موضحاً أنه ببساطة «هناك معلومات تجمعها الأجهزة الوطنية الأوروبية، وهي لا تريد تشاركها مع آخرين».
صاحب فكرة «سي آي إيه» أوروبا هو المفوض الأوروبي للهجرة والشؤون الداخلية ديمتريس أفرامابوليس، وحينما طرحها أثار غضب عواصم عديدة. خلال مغادرته قاعة المؤتمر الصحافي، سألته «السفير» إن كان صار لفكرته تلك أرجل، فقال: «لقد كانت فكرة، وحقيقة هي فكرة مثالية، لأنها توفر معلومات أكثر، على الدول الأوروبية تشاركها، وستكون مؤسسة بالطبع على الثقة المتبادلة لجعل النظام أكثر فعالية»، قبل أن يضيف «لكنها تبقى فكرة الآن».
لم يرد أفرامابوليس الظهور بصورة المدافع الذي سجل هدفاً في مرمى فريقه. حتى من دون التطرق لتلك السلطة السيادية الحساسة، يحصد اليمين الأوروبي المتطرف المزيد من الأصوات، ليصير بين الأحزاب المنافسة على الموقع الأول، في دول عديدة، تحت شعار إعادة القوة للدولة الوطنية.
وطأة ذلك كانت واضحة في الاجتماع الأوروبي. الدنمارك أجرت استفتاء لتتمكن من التعاون مع جهاز الشرطة الاوروبية «يوروبول»، بعدما تمت توسعة صلاحياته، لكن مواطنيها رفضوا ذلك بنسبة 53 في المئة. بلدهم في الأساس لديه سياسته المستقلة، وليس ملزماً بالتشريعات الأوروبية بالنسبة لشؤون العدل والقضاء والداخلية، لكن مع ذلك رفضوا حتى القبول بمبدأ دراسة كل حالة تعاون قبل إقرارها من الحكومة والبرلمان. الدنمارك تواجه صعوداً كبيراً لحزب «الشعب» المتطرف، وبعض المسؤولين في بروكسل قالوا إن الرفض يعكس شكوك المواطنين بقدرة أوروبا على حفظ أمنها والتعامل مع أزمات لم تستطع حلها.
إحدى تلك «الأزمات»، التي جيّرها اليمين المتشدد تخويفاً لمصلحة زيادة شعبيته، هي قضية تدفقات اللاجئين. الآن بات التكتل الأوروبي أمام واقع تعليق اتفاقية «شنغن»، حتى لو رفض الاعتراف بذلك تجنباً لمزيد من الضرر السياسي لمشروع الوحدة.
بعدما عثرت المفوضية على إمكانية تمديد مهلة الرقابة الحدودية، الداخلية، إلى ستة أشهر، الآن يجري التداول في إيجاد منفذ جديد لتمديدها حتى سنتين. في الأساس حرية الحركة بين دول التكتل أهم إنجازاته الملموسة لمواطنيه، وفقدانها يذهب مباشرة لرصيد اليمين المتطرف أيضاً.
اللوم يلقى على الدول التي تشكل حدوداً خارجية لـ«شنغن»، خصوصاً على اليونان الآن. تم الضغط على اليونان عبر التلويح بإقصائها عن «شنغن»، مع تداول مقترح حول إنشاء «شنغن» مصغرة. خرجت الرئاسة الأوروبية معترضة على الملأ، لتقول إنه منهج خاطئ لأنه «لا يمكن إقصاء أحد».
مع ذلك، هدد وزير الخارجية الالماني توماس دو ميزييه بأنه «إذا لم تستطع دولة حماية حدودها بشكل مرضٍ، فيجب على فرونتكس (وكالة الحدود الأوروبية) تولي الأمر». قال لمن يجنون اقتصادياً منافع حرية الحركة، إنه من دون حدود خارجية محروسة جيداً، لا يمكن مواصلة «شنغن» فعالة.
الضغوط على اليونان أتت بنتائجها. كانت تحاول التعامل مع التدفقات عبر أجهزتها، مع إبقاء الحدود مفتوحة باتجاه الداخل الأوروبي. واصلت فعل ذلك كنوع من الضغط على نظرائها، للقبول بنظام توزيع اللاجئين وفق الحصص، بعدما أسقط سيل اللجوء نظام «دبلن» الذي كان يلقي المسؤولية على الدول البوابة. ستقبل اليونان الآن بوجود حوالي 500 من ضباط حدود الوكالة الاوروبية، ما يعني مزيداً من الرقابة عليها لإغلاق حدودها.
هذا الإغلاق يؤدي إلى توترات كثيرة. آخرها كان على الحدود مع مقدونيا. هناك قررت السلطات إغلاق الحدود مع إبقاء منافذ قليلة، ثم القيام بتمرير انتقائي للاجئين بعد تصنيفهم. أدى ذلك إلى صدامات في ما بين اللاجئين أنفسهم نظراً لحساسيات الانتقاء: السوريون والعراقيون والأفغان من جهة، مع الباقين من جهة أخرى.
تركيا بدورها تواصل لعب دورها الذي لم تمانع في إظهار عدم نظافته. مصدر أوروبي قال لـ «السفير» إن الزعماء الاوروبيين اشترطوا على أنقرة «رؤية نتائج ملموسة قبل قمتهم بعد أسبوعين كي يقوموا بعدها بتنفيذ الصفقة التي تم التوصل لها». الثمن الأهم هو منح اتفاقية السفر من دون فيزا للأتراك، وتسريع مفاوضات الانضمام إلى التكتل الأوروبي. بعد أقل من 24 ساعة على انتهاء القمة الاوروبية التركية الأخيرة، ألقت الأجهزة التركية القبض على مئات اللاجئين، ليصل العدد خلال أربعة أيام إلى ما يفوق ثلاثة آلاف، بينهم الكثير من السوريين. تركيا تواصل القول إن السوريين هم «ضيوفها»، لكنها لا تبالي الآن بسؤالهم لماذا كانت تفتح الباب أمامهم، ثم تعتقلهم الآن إن حاولوا عبوره؟
(السفير)