ما بعد إسقاط الطائرة الروسية محمد نورالدين
انتقلت روسيا سريعاً من مرحلة الظروف التي أسقطت تركيا فيها طائرتها القاذفة «سوخوي 24» إلى مرحلة الرد المباشر والذي يدخل في إطار الرد الاستراتيجي.
أصرت روسيا على أن تركيا قامت بكمين محكم لإسقاط الطائرة. بمعزل عما إذا كانت الطائرة قد انتهكت المجال الجوي التركي أم لا فإن فعل إسقاط الطائرة بحد ذاته، وهي التي لم تكن تعتدي على تركيا والانتهاك إن حصل كان لثوان، كان يعكس نوايا مبيتة لدى تركيا وبالتالي هو هجوم متعمد على روسيا وليس مجرد سوء تفاهم جوي.
هذا ما كان في خلفية التحرك الروسي الفوري للرد على إسقاط الطائرة. الخطوات الروسية اتخذت الطابع الاستراتيجي وهو الرد الذي تفضله روسيا على أساس أنه يبلغ بها أهدافاً ما كانت لتتحقق لولا حادثة إسقاط الطائرة.
الروس من هذه الزاوية ليسوا منزعجين من نتائج الحادثة وإن كانت الهيبة الروسية قد تضررت حيث استطاعت دولة متوسطة القوة أو حتى أقل من ذلك أن تتجرأ على دولة كبيرة وعظمى مثل روسيا، وهو ما لم تفعله كل القوى الغربية على امتداد الحرب الباردة وحتى الآن. لذا الغضب الروسي عال جداً لكنه لم يترجم بعد رداً سريعاً مباشراً موضعياً كما تفعل عادة كل القوى والدول من أمريكا إلى «إسرائيل» إلى فرنسا.
في جميع الأحوال قد يأتي الرد الروسي «السريع» وقد لا يأتي. لكن ما اتخذ من إجراءات روسية حتى الآن شكل ضربة استراتيجية لتركيا لم تكن تتوقعها وهو ما دفع بالرئيس التركي رجب طيب أردوغان إلى التعبير عن أسفه وحزنه وبأنه كان يتمنى ألا تحصل، آملاً ألا تتكرر مثل هذه الحوادث مستقبلاً.
لكن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين على ما يبدو كان مستعداً للاجتماع بنظيره التركي لو أن الأخير أصدر اعتذاراً وهذا لم يحصل.
من أكبر خسائر تركيا من الإجراءات الروسية هي أن روسيا عززت وجودها العسكري الاستراتيجي في سوريا والمتمثل بمنظومة صواريخ «إس 400»التي تستطيع أن تغطي كامل المجال الجوي السوري والحدود التركية وصولاً إلى البحر المتوسط بحيث تستطيع أن تسقط 300 هدف في وقت واحد. وهذا النظام يجعل أي طائرة تركية عرضة للانكشاف والإسقاط. وهذا بالمعنى العسكري أن المجال الجوي السوري بات بعهدة الروس. وهو ما ينسف من الأساس فكرة إقامة المنطقة العازلة التي تريدها تركيا ليس لتجميع اللاجئين السوريين بل لتكون مرتكزاً لها لممارسة تأثير في سوريا.
إسقاط تركيا للطائرة الروسية والتي أرادت منها كبح جماح التقدم السوري الروسي على الأرض ولا سيما في ريف اللاذقية من جهة والتمهيد لإقامة منطقة عازلة من جرابلس إلى المتوسط من جهة أخرى، أتى بنتائج معاكسة للتوقعات التركية. وبدلاً من ذلك تراجعت فرص إقامة المنطقة العازلة وباتت روسيا هي التي تفرض حظراً جوياً على الحدود السورية التركية وليس تركيا. كذلك فإن حرية حركة الطائرات التركية تراجعت كثيراً وهي معرضة في أي لحظة للإسقاط من جانب روسيا في لحظة وجود قرار سياسي.
لقد أعطت تركيا بإسقاط الطائرة روسيا مبرراً لتعزيز وجودها في سوريا. أيضاً أدت الحادثة إلى ضرب روسيا للخطوط الحمر في بنك الأهداف التي تقصفها في سوريا بعدما تجاوزت تركيا بإسقاط الطائرة كل الخطوط الحمر الروسية السميكة. لذا نجد الطائرات الروسية تقصف للمرة الأولى مناطق على المعابر التركية مباشرة وتقدم يد المساعدة المباشرة لقوات الحماية الكردية في عفرين، على الجبهة التي يبدو أنها قد فتحت في مواجهة المعارضة التي تدعمها تركيا.
وهكذا تجد تركيا نفسها في مزيد من العزلة بعدما خسرت الشريك الأكبر والأهم لها في العالم وقبل ذلك المجاور لها جغرافيا.
(الخليج)