مقالات مختارة

تصدّع جدار الصمت الأوروبي: حملة لإغلاق معاقل الوهابية! وسيم ابراهيم

 

تداعيات هجمات باريس، وما لحقها من تهديدات أمنية قصوى في بروكسل، أطلقت حملة انتقادات غير مسبوقة تطال مباشرة دور السعودية. وسائل إعلام بلجيكية وسياسيون ونواب يركزون الآن على الربط بين «الوهابية» ونشر الإسلام المتشدّد في أوروبا، مروراً بالحديث عن «الدور المشبوه» الذي يعتبرون أن المملكة تلعبه في «تمويل الإرهاب».

تلك التعابير اقتباسات حرفية من بعض عناوين الحملة. أولى النتائج جاءت مع إلغاء اتفاقية الإعفاء الضريبي مع الرياض، فيما التصويب جارٍ الآن على إغلاق المسجد الكبير والمركز الإسلامي، الموصوفين بكونهما «معقلين للوهابية».

أوج الحملة ظهر مساء يوم الخميس. لولا ظهور مذيعيهم على الشاشة، لكان مشاهدو التلفزيون الوطني البلجيكي «في آر تي» (الناطق بالهولندية) ظنّوا أنّه تمت قرصنته من قبل خصوم السعودية. خرجت المذيعة المخضرمة مارتين تانغه بهذه المقدّمة للقصة الإخبارية الأولى: «منذ عقود والسعودية تنتهك حقوق الإنسان بطريقة فاضحة، كما أن دور هذا البلد المتعلق بالإرهاب الدولي ليس واضحاً».

طريقة الخطاب تلك بدت لافتةً جداً بالنسبة لقناة معروفة برصانتها الشديدة. فَردت شاشاتها لتعداد مزايا المملكة النفطية بهذا الشكل: «البلد مشهور بالمذهب الوهابي المحافظ جداً، إضافة لكونها مشهورة بقطع الرؤوس، وكذلك بانعدام حقوق النساء»، قبل المرور إلى وضع حرية التعبير مع ذكر أمثلة سجن وجلد المدوّن رائف بدوي والحكم بالإعدام على الناشط القاصر علي محمد النمر.

كل هذا السوء هناك، لكن العرض أكمل لربط جسور عابرة للحدود: «السعودية تموّل وتروّج للإسلام المتشدّد عبر استثمارات بالمليارات في جوامع حول العالم، في أوروبا، وفي بلجيكا أيضاً».

هذه الحملة جعلت الحكومة البلجيكية تحت ضغوط لا ترحَم، خصوصاً مع النقاش الساخن المصاحب لحالة التأهب الأمني احتراساً من هجمات إرهابية كالتي ضربت العاصمة الفرنسية. الوزراء البلجيكيون يحاولون كل جهدهم الردّ على اتهامات التقصير الأمني، داخلياً وخارجياً، لكنهم وجدوا أنفسهم في الزاوية، مع إثارة قضية العلاقات مع السعودية وطلب المعارضة القيام بمراجعة عميقة لها.

خلال نقاش ما يجب اتخاذه من إجراءات أمنية إضافية، صعد النائب المعارض واوتر دو فريند إلى منبر البرلمان الفدرالي متّهماً الحكومة بالنفاق. قال موجّهاً كلامه إليها: «خلال يوم نضع جنوداً أمام مدارسنا ومتاجرنا، وفي اليوم التالي نصدر أسلحة لبلدان تدعم هؤلاء الإرهابيين الاسلاميين، إنهم أنفسهم بالضبط الإرهابيون الذين نحاول كل ما في وسعنا لحماية أنفسنا منهم»، قبل أن يضيف «هذا وضع لا يمكن الدفاع عنه، إنه انفصام شخصية، ولذلك أطلب منكم أن تراجعوا على نحو عميق علاقاتنا مع السعودية».

رغم معرفة الحكومة بحساسية الرأي العام المتشنّج، لكنها لم تملك الردّ إلا بخطاب ديبلوماسي. وقف وزير الخارجية ديديه ريندرز أمام البرلمانيين الغاضبين، ليقول بكلمات حذرة: «مع الاتحاد الأوروبي وشركاء آخرين، نحن نطلب من السعودية أن تكون جزءاً من الحل في سوريا والعراق والعديد من الصراعات الأخرى»، معتبراً أنه «كي نجد حلاً، من المفيد جداً أن يكون لدينا هذا الحوار»، مع الرياض.

المعارضة بقيادة الاشتراكيين والخضر أكملت تصعيدها، مستغلة المرافعة الضعيفة لائتلاف حكومي من اليمين المحافظ والليبراليين يتبنّى أولوية مواجهة التهديدات الأمنية. في سياق المراجعة الشاملة المطلوبة، صوّب نوابُ المعارضة على أولويات مباشرة: هناك اتفاقية إعفاء ضريبي متبادل، تنتظر التوقيع، بعدما اكتملت خلال مفاوضات استمرت أكثر من عامين.

النائب الاشتراكي ديرك فان ديرمالن وجه انتقادات حادة للاتفاقية. قال مخاطباً أحد نواب الحكومة: «إكمال الاتفاق الضريبي يعني أن البلجيكيين المقيمين في السعودية سيدفعون ضرائبهم هناك، وأنت تعرف لماذا تستخدم دولارات البترول هذه، لزرع الكراهية في عقول الشباب عندنا عبر أئمة متشدّدين وجوامع»، قبل أن يكمل «إنه من الغباء التوقيع على اتفاقية كهذه طالما تواصل السعودية نشر اسلام متطرف يبث الكراهية».

لم يجد بيتر دو روفر، النائب من كتلة الائتلاف الحكومي، ما يُفحِم به مهاجمه. ردّ بأنه ضد منطق «أبيض أو أسود»، مدافعاً عن الاستثمارات السعودية والاتفاقية الضريبية بالقول إن «عقوداً تجارية كهذه يجب استخدامها لطرح قضية حقوق الانسان».

كلامٌ يؤكد أن الحكومة صارت في مأزق، لذلك بدأت بالتراجع قليلاً. وزارة المالية البلجيكية أعلنت تعليق إقرار الاتفاقية الضريبية، لتقول في بيان إنه «في ضوء الأحداث الحالية، يبدو لنا أن الأمر المناسب هو أن نعيد تقييم الاتفاقية على مستوى مدى الرغبة (لدى بلجيكا) في إنجازها».

الظرف لا يسمح كثيراً بالمناورة، فالخطر الإرهابي يحاصر بروكسل. بعد أسبوع من بقاء التهديد في المستوى الأقصى، المحذّر من هجمات «مرجّحة ووشيكة»، تمّ تخفيضه إلى مستوى هجمات «ممكنة ومحتملة». لم تقدّم مبررات مقنعة لذلك، ولم يعلن عن القبض على الشبكة المخططة، لكن الأمن والجيش سيبقيان في المدينة. وزارة الدفاع بررت ذلك بالقول إنه «يجب ألا ننسى أننا ما زلنا أمام مستوى تهديد إرهابي مرتفع».

هكذا صارت التطورات الأمنية في قلب نقاش الإعلام البلجيكي للعلاقات مع السعودية. خلال عرضها لتجميد الاتفاقية الضريبية، قالت صحيفة «دو ستاندارد» الواسعة الانتشار إن «الكثير مما نحسّه مقرفاً في داعش، هو عادي في السعودية: إعدامات عامة ومعاقبة بالجلد وتمييز شديد ضد النساء»، قبل أن تتساءل «هل لا يزال بإمكاننا القيام بأعمال تجارية مع السعودية، الدولة التي تروج لإسلام متشدد للغاية؟».

حساسية القضية تتزايد مع الاشارة لوجود معقل مهم لهذا الترويج في عاصمة الاتحاد الأوروبي. الدعوات الآن تركز على إغلاق «المركز الإسلامي» في بروكسل، مع الجامع الكبير الملحق به، الذي تديره وتموله مباشرة وزارة الأوقاف السعودية.

لا يحتاج زائر بروكسل أكثر من عشر دقائق مشياً لوصوله من مقر المؤسسات الأوروبية. المركز قائم في مبنى تاريخي، على طرف منتزه كبير، كان ملحقاً بكتلة المتاحف الملكية. تعود قصته للعام 1967. قدّمه الملك باودوين «هبة» لنظيره السعودي فيصل بن عبد العزيز، عبر الصيغة الشهيرة لعقد «التأجيل التوارثي» مدة 99 سنة.

بعض الروايات تقول إن الملك السعودي أراده بتصميم لدعم نشر الوهابية في أوروبا، في إطار محاولاته لإرضاء رجال الدين الذين دعموا صعوده للعرش. روايات أخرى تقول إن بلجيكا كانت وقتها تريد شكر الملك السعودي، بعدما تبرّع بسخاء لعائلات نحو 300 ضحية لحريق كبير شهدته بروكسل خلال زيارته.

وردت سابقاً اشارات متفرقة حول علاقة «المركز الإسلامي» بنشر التطرف، خصوصاً بعد صعود ظاهرة «الجهاديين» الأوروبيين في سوريا والعراق، لكن المعارضة تطالب الآن باستعادته وإنهاء عقد تأجيره. النائبة البلجيكية ياميلا إدريسي اعتبرت أن «المركز الإسلامي» يلعب «دوراً محورياً في نشر الوهابية، التي هي شكل متشدد للاسلام، وهو ما يتبعه أنصار داعش»، قبل أن توجه خطابها للحكومة بالقول إنه «إذا كان رئيس وزرائنا يريد أن يعالج التطرف والإرهاب من الجذور، فمن الواجب أن يلغي التأجير الطويل للجامع الكبير مع السعوديين ويجب أن يطرد الوهابية».

إدارة «المركز الإسلامي» نفت مراراً أي صلة له بنشر التطرف. لكن البرلمانيين البلجيك ليسوا الوحيدين الذين تحدثوا عن تحدي «انتشار الوهابية». لم يتوقف جيل دو كيرشوف، المنسق الأوروبي لمكافحة الارهاب، عن الدعوة لتقوية قطب معتدل يتولى ترويج الإسلام الوسطي، محذراً بدوره من عواقب ترك الساحة لدعاة «الوهابية». قال خلال مقابلة سابقة مع «السفير» إن «مخاطر ذلك مستمدة من أمثلة واقعية»، متحدثاً بأسف عن «انتشار الوهابية» في موريتانيا التي كان يسودها «المذهب المالكي المعتدل».

النقاش استقطب خبراء أشاروا إلى مشكلة خارج السيطرة في السعودية. البروفسور جو فان ستينبرغ، استاذ الدراسات العربية والاسلامية في جامعة «غنت»، لفت بدوره إلى أن الوهابية «أرض خصبة لأشكال من التطرف»، معتبراً أنها «تقمع ثروة من الرؤى التي يسمح بها الإسلام». معلقاً على النقاش الدائر، قال إن «المشكلة الكبرى هي التدفقات المالية من عائلات مهمة وغنية إلى تنظيم القاعدة وداعش».

إلغاء الاتفاقية الضريبية جاء خطوة تثبت حجج أصحاب الحملة الانتقادية، ليأتي كخطوة تفتح «صندوق الشرور» حول العلاقة مع السعودية والامتيازات الممنوحة لمؤسستها الدينية. النقاش يمكن أن ينتقل إلى عواصم أوروبية أخرى تشغلها قضية التهديدات الإرهابية، مع العلم أن نخباً أوروبية مؤثرة صارت تثيره في كل فرصة سانحة.

الحملة البلجيكية تهدّد أيضاً عقداً استثمارياً ضخماً، بقيمة نحو أربعة مليارات دولار، بين شركة «إي إس آر» السعودية وميناء أنتويرب. المشروع يترقّب ثاني أكبر موانئ أوروبا توقيعه خلال أيام، لكن معارضيه يشيرون إلى «شبهات قوية بتمويل الإرهاب تدور حول» أحد المستثمرين السعوديين.

النائب المعارض فان ديرمالن ندّد بمرافعة الحكومة عن توفير المشروع 900 وظيفة، قبل أن يوجه نداء لأصحاب القرار الأخير: «بالنسبة لنا، الأمن أهم من هذه الوظائف، أنا أكاد أتوسل إليكم ألا تكملوا في هذا الاستثمار، لأنه يعني تمويل الإرهاب والتشدد». ردّ على ذلك النائب دو روفر، من كتلة الحكومة، معترضاً: «نحن نرفض هذا التبسيط، ليس لأن هناك مجموعات خاصة في السعودية تمول الإرهاب، فكل مبادرة سعودية تعني وجود أموال تذهب لداعش».

(السفير)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى