إشراقة موسكـو بقلم:بنت الأرض
أن تصل إلى موسكو في أعقاب العدوان التركي السافر على السيادة السورية والطائرة الروسية التي كانت تستهدف الإرهابيين، أي أن تقبض على خميرة السياسة الروسية واهتماماتها الداخلية والإقليمية والدولية، وأن تطلع على حقيقة ومشاعر وتفكير السياسيين الروس بالإضافة إلى الانطباعات التي تأخذها من غير السياسيين هنا وهناك. في حمأة ردود الفعل الروسية على الجريمة البشعة التي ارتكبها أردوغان والإرهابيون التابعون له بحق الطائرة والطيار تكشف أيضاً سرّ قوة الدبلوماسية الروسية وسرّ صعود نجم السياسة الروسية في العالم بسرعة قياسية. إذ هاهو هولاند، الذي كان يتخذ مواقف مغايرة تماماً منذ عدّة أشهر فقط، يحطُّ رحاله في موسكو ليناقش مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين سبل مكافحة الإرهاب الذي ضرب عمق العاصمة الفرنسية باريس منذ عدة أسابيع فقط. وها هو كاميرون يضع أمام البرلمان البريطاني مشروع التعاون مع موسكو في التحالف الذي أعلن عنه الرئيس بوتين ضدّ الارهاب، وهاهو العالم يسمع ويرى تفسيراً علمياً لإشارات الرئيس بوتين في قمة العشرين حين قال هناك دول تدعم الإرهاب وبعضها موجود معنا في هذا الاجتماع. وأتى العدوان التركي الأحمق بهذه السرعة وإعدام الطيار الروسي وهو قافز في مظلته إلى النجاة، العمل الذي يعتبر جريمة حرب، أتى كل هذا ليشرح إشارات الرئيس الروسي بأنّ الدولة المضيفة لقمة العشرين، أي تركيا، هي الدولة الأولى الحاضنة والمؤيدة للإرهاب. وفي كلّهذا يبرز دور القيادة الروسية وسياستهم الاستراتيجية وصدقهم في التعامل مع الأصدقاء والأعداء، وهنا أيضاً تقدّم روسيا أنموذجاً مختلفاً جداً عن قوة عظمى مازالت تفرض هيمنتها الاقتصادية والعسكرية على العالم أجمع. روسيا تقدم هذا الأنموذج من روح الشرق التي تتناقض كلياً مع منهجية الغرب وإيمانه بأنّ القوة الغاشمة هي الوحيدة القادرة على حسم الأمور. اللافت كان في اجتماع بوتين – هولاند هو تعبير بوتين عن وجهة نظر روسيا في محاربة الإرهاب وما أضاف بعد ذلك: أن هذه هي رؤيتنا ولكننا مستعدون للاستماع لرؤية الآخرين ومناقشتها وندعو الآخرين للتحدث إلينا برؤيتهم. على بساطة هذه العبارات هي بالفعل في غاية الأهمية لأنها عنوان أساسي لاحترام “الآخر”، أياً يكن هذا الآخر، واحترام رأيه ومقترحه ومشاركته فكراً وأسلوباً وعملاً في البحث عن الحلول بالإضافة إلى تواضع القوّة العالمية الصاعدة وطمأنتها لشركائها أنها تسمع وترى وتناقش وتتأقلم مع المعطيات الجديدة. هذه القيم الأخلاقية في السياسة من تواضع واحترام وصدق وثبات على الموقف هي قيم جوهرية لنجاح هذه السياسة وبلوغها أهدافها المرتجاة، اليوم أو غداً أو بعد غد.
يقابل هذا الألق في سماء روسيا وشوارعها التي اكتست حلّة بيضاء أثناء وجودنا هناك اسوداد صفحة مجرم الحربأردوغان في العالم برمته بما فيها العالم الغربي وانكشاف حقيقة دعم تركيا للعدوان على سورية منذ اليوم الأول، والشراكة التركية الداعشية في النفط والمال وسفك دماء مئات الألوف من السوريين وتدمير حياة الملايين منهم من أجل تكريس الثروة الحرام لابن أردوغان. حماقة أردوغان الإجرامية كشفت خلال أسبوع واحد للعالم أجمع ماهية هذا الإرهاب الذي يضرب سورية والعراق، فضحت الدول التي تدعمه، كما كشفت أيضاً الفرق الجوهري بين النفاق الغربي في حديثه عن مكافحة الإرهاب وبين صدق التعامل الروسي في الوقفة الجريئة الحازمة ضدّ الإرهاب. لقد مضى على ظهور داعش في العراق وسورية سنتان ونيّف ومضى على تشكيل التحالف الأميركي ضدّ الإرهاب ثمانية عشر شهراً ازدادت رقعة الإرهاب خلالها في العراق وسورية وازداد الإرهابيون تسليحاً ودموية وفظاعة وانتشاراً مع تجاهل مطلق لمعاناة الشعبين السوري والعراقي من قبل الغرب. حيث يتحدث أوباما عن العنف الفلسطيني وحق اسرائيل في الدفاع عن نفسها وعن حق تركيا في الدفاع عن أراضيها وهي ترتكب جريمة بحق الإنسانية على مرأى العالم أجمع يعني أنّ تصريحات الساسة الغربيين أصبحت جوفاء لا قيمة لها وأنهم لن يجدوا من يحترم تصريحاتهم بعد اليوم.لقد اكتشفت الشعوب في الشرق والغرب والشمال والجنوب النفاق الغربي وأحاديثه الجوفاء عن حقوق الإنسان واستغلاله لثروات الشعوب ومقدراتها، وبدأت هذه الشعوب ذاتها تتجه شرقاً لترى قوة عسكرية وسياسية ملتزمة فعلاً الأخلاق وحقوق الشعوب في الحياة الحرة الكريمة وحقها في تقرير مصيرها.
لقد تغير العالم فعلاً وانقشع ضباب التهويل الإعلامي والأكاذيب الدعائية عن أعين الناس في الشرق والغرب وكسب الحقّ جولة هامّة في حربه على الباطل، إنّ الباطل كان زهوقاً.