مقالات مختارة

هكذا تجيب أوروبا على هواجس صغارها: الأشرار الطلقاء والزهور المضادة للرصاص! وسيم ابراهيم

 

قيل للتلاميذ إن نظام الخروج من المدرسة تغّير، لأن هناك «شريرين» يمكنهم أن يلحقوا بهم الأذى. خرجوا دفعات على شكل أرتال، كل منها كان يجد نفسه وسط دائرة من رجال الأمن المسلحين. لكنهم كانوا يعرفون سابقاً أن الأمور ليست طبيعية. إنه يومهم الدراسي الأول مع أن الأسبوع انتصف. لم يذهبوا إلى مدارسهم التي أغلقت ليومين، كما لم يخرجوا للحدائق في العطلة.

مدينتهم بروكسل تعيش حالة تأهب أمني قصوى، مع استمرار توقع هجمات «وشيكة» كالتي ضربت باريس. تلك قصة للكبار، أما براءة الأطفال فتتم مداراتها بحكاية مطاردة الشرطة لبعض الشريرين الهاربين. لكن تلك البراءة هي بالضبط ما تشكل ضغوطاً هائلة على السلطات البلجيكية، وتجعل الخروج من حالة الخطر «الأحمر» أصعب من الدخول فيها. لم يعد هناك مجال لأي التفاف على حزمة الأسئلة البريئة.

تقول الحكومة إن حالة التأهب القصوى ستبقى مستمرة حتى الاثنين، لكنها لن تُرفع على أي حال قبل زوال أسباب فرضها. المخطط الإرهابي لا يزال «وشيك» الحدوث، ورؤوسه المدبرة لا تزال طليقة، والمداهمات والملاحقات لم تؤد إلى القبض على صيد ثمين يمكن الخروج به للناس.

هذه الأجواء فرضت استقدام تعزيزات أمنية إضافية لإعادة فتح المدارس والجامعات وشبكة المترو، طبعاً فوق حشود الجيش والأمن المنتشرين في الشوارع. تأمين التعزيزات كان ممكناً فقط عبر استقدام مئات عناصر الشرطة والأمن من المدن الأخرى إلى العاصمة.

بعض محطات المترو، تلك القريبة من أحياء مرصودة، بقيت مغلقة. أهل بعض التلاميذ وصفوا ما حدث أمام مدارسهم أنه مثل إجراءات «التسليم والاستلام». لا مجال لأي خطأ. الحكومة تتعرض مسبقاً لانتقادات شديدة، خصوصاً في موضوع توفير الأمن. قبل أيام اضطرت الأجهزة الأمنية الفرنسية لتقديم اعتذار رسمي عن انتقادات وجهتها لنظيرتها البلجيكية. لكن الواقع لم يتغير. العديد من الانتحاريين خططوا وانطلقوا من بروكسل، كما عاد إليها أحدهم وهو لا يزال فاراً. إنه المطلوب رقم واحد في أوروبا صلاح عبد السلام، فيما تقول الأجهزة البلجيكية إنه ما كان لينجح في التواري هذه المدة لولا وجود شبكة محلية تدعمه.

حاول وزير الخارجية البلجيكي ديدييه ريندرز قيادة حملة ديبلوماسية لإصلاح بعض الضرر الذي لحق بصورة بلده. أجرى العديد من المقابلات، لكن الأمور من سيئ إلى أسوأ. كان يشرح باستفاضة عن أنهم يفعلون كل ما في وسعهم، مدللا على ذلك بالمهمة الشاقة أمام الأجهزة الأمنية. قال، سهواً خلال الحديث، إن السلطات تلاحق عشرة إرهابيين على جهوزية تامة للقيام باعتداءات. صار الجزء المتعلق بالانتحاريين العشرة، الطلقاء في المدينة، الخبر الأول، خصوصاً لأن السلطات تحفظت على عدم تسريب أي معلومة.

وسط هذه الأجواء، لا يمكن العودة إلى الحياة الطبيعية من دون مواجهة سؤال الصغار: لكن هل أمسكنا بهؤلاء «الشريرين» الآن؟ إذا أقدمت الحكومة على تحدي هذا المنطق البريء، ستكون أثبتت على أجهزتها صورة الفعالية التعيسة بيديها.

هذه المعضلة يرى محللون أمنيون أنها مرتبطة بالحقل الأمني عموماً، وما يتعلق بالتهديد الإرهابي على وجه الخصوص. يعلق على ذلك أيان ليزر، خبير الشؤون الأمنية والخارجية لدى مؤسسة «جيرمان مارشال فاوند» الأميركية في بروكسل، يقول، خلال مقابلة مع «السفير»، إن التهديد الإرهابي «مشكلة معقدة، تتطلب التبادل الاستخباري الممتاز، لكنها أيضاً مجال لا كمال فيه»، قبل أن يضيف «لأن كل الانتصارات عادة ليست مرئية للعامة، أما الإخفاقات فتكون شديدة الوضوح أمام الناس. لذلك عليك أن تقوم بأمور عديدة معاً: عليك تقليل المخاطر وطمأنة الناس وأيضاً التعامل مع المشكلة بوصفها مشكلة إستراتيجية طويلة الأجل».

وفق هذه المعادلة، لم يحظَ بالاهتمام الكبير إعلان الحكومة أنها أحبطت هجمات كانت ستنفذ يوم الأحد. كل هذا لا يغير شيئاً في التحدي القائم. لا مناص هنا من تكرار نماذج مختلفة من حكاية الصغير براندون، التي مرت على شاشات تلفزة أوروبا والعالم.

كان الطفل المولود في فرنسا لعائلة فيتنامية مهاجرة مع والده وسط باريس، بعد الهجمات، يشعلون الشموع ويضعون الورود مثل غيرهم. التقطته كاميرا تلفزيونية فرنسية في أخذِ وردٍ معبريْن جداً، تبادلهما مع أبيه. حاول الأب، بهدوء شديد، طمأنة هواجس صغيره بأنه المتوجس من «الشريرين» أصحاب البنادق. كان براندون مستغرباً كيف يقفز والده عما حصل في باريس: «لديهم بنادق، يمكنهم أن يطلقوا النار لأنهم شريرون جداً جداً». أجابه والده «لا بأس، ربما لديهم بنادق لكن لدينا زهور»، فبادره الصغير سريعاً «لكن الزهور لا تفعل شيئاً».

ما يحصل في بلجيكا جعل الجميع، وليس الصغار فقط، يتحدثون مثل براندون. لا مجال لحيل السياسة، فإما القبض على مسببي التأهب أو إبقاؤه مع خسائره التي يشكو منها الاقتصاد لكن أيضاً المجتمع. العنصرية تسجل مستويات غير مسبوقة. هناك سيدة محجبة منعها موظفون في متجر «زارا» في مدينة أنتويرب القريبة من دخوله قبل نزع غطاء رأسها. أفعال الهلع تنال من أبرياء آخرين أيضاً، بمختلف أشكال الإيذاء.

عشرات الاعتقالات انتهت بإطلاق الغالبية، مع توجيه اتهامات بالتورط لخمسة أشخاص. التهديد يتسع الآن مع إعلان المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل أن هناك تهديداً إرهابياً خطيراً في ألمانيا أيضاً. ثمة شكوك بأن المطلوب الأول عبد السلام، وربما هناك مرتبطون به، نجح في الفرار إلى مدن ألمانية حدودية، لكن السلطات البلجيكية تنفي.

وسط كل هذه المعمعة، تزداد حدة معاناة اللاجئين. ليس فقط لحلول الشتاء الأوروبي البارد، بل لاستمرار ربط قضيتهم بقضية التهديدات الإرهابية. اليمين الأوروبي الرافض لهم لا يكف عن مدّ الجسور السامة. فوق ذلك، صارت بعض حكومات طريق البلقان تنتهج سياسة متشددة ومفاجئة، مثلما فعلت مقدونيا بإغلاق حدودها مع اليونان، تاركة مئات العالقين هناك يصرخون احتجاجاً بلا جدوى.

سياسات كهذه باتت مرجّحة في أجواء الشحن المستمر. الحلول ليست ممكنة الآن، فيما ينتظر الجميع القمة التي سيعقدها الزعماء الأوروبيون مع تركيا الأحد. إسقاط الطائرة الروسية زاد التأزم، فلا فرنسا، ولا كثيرون من نظرائها، كانوا ينتظرون لغماً كهذا على مسار توسيع التحالف ضد الإرهاب والحل السياسي السوري.

الحجة التي قدمتها تركيا لا تقنع كثيرين طبعاً. إنها نوع من الحكايات التي سيقول عنها الأطفال إنها خرقاء كي تصدّق. يمكنهم أن يقولوا ببراءة، في درس الحاسب، إن المنطق التركي يعني أن اليونان يجب أن تُسقط عشر مقاتلات تركية كل أسبوع، لأنهم يسجلون «أكثر من 35 انتهاكاًَ» لمجالهم الجوي من قبل الطيران الحربي التركي كل يوم.

كل تلك السجالات تترسب توترات داخل أوروبا، فيما يفترسها اليمين المتطرف مواصلاً صعوده. حينما تساءل الصغير براندون ماذا يمكن للزهور أن تفعل، أجابه والده مواصلاً احتضانه «لا بالطبع تفعل، أنظر، الجميع يضع الزهور، إنه قتال ضد البنادق». تنهد الصغير «هل هي للحماية؟». طمأنه الأب «الورود والقناديل هنا لتحمينا».

ما تعيشه أوروبا يجعل من الصعب الآن حسم القصة بانتصار الخير على الشر. ما الذي سيرويه مثلا أبٌ على شاكلة فيكتور أوروبان، رئيس الوزراء المجري، الذي قال من دون خجل قبل أيام «كل الإرهابيين هم مهاجرون.. مسلمون». إذا كان هذا منطق رئيس وزراء دولة أوروبية، فكيف بجمهور عريض من داعي اليمين المتطرف على طول أوروبا؟!

أحد الأجوبة حملتها قصة مدرسية أيضاً، انتشرت بكثافة، بطلها مدرّس من بولندا التي، للمصادفة، حقق فيها اليمين المتشدد فوزاً انتخابياً كبيراً أخيراً. اختار اللاجئين موضوعاً لمسألة حسابية، وضعها أمام الطلاب، سائلاً إياهم: كم لاجئاً يجب أن نرمي من القارب كي يبقى عائماً؟

(السفير)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى