مقالات مختارة

تركيا بلا أنياب أطلسية أمام ثأر الدب الروسي وسيم ابراهيم

 

لا سند «أطلسيا» لأنقرة، إذا ما قامت روسيا برد انتقامي لإسقاط تركيا طائرتها المقاتلة، طالما أنه رد مسقوف بحدود الفعل الذي استفزه، بغض النظر عن تضارب الشروحات حول ما حصل. الحادث ليس بلا سياق متكامل، خصوصاً بعد الصدام سابقاً حول قصف روسيا لمجموعات تركمانية معارضة في سوريا تعمل تحت مظلة أنقرة.

وسارعت تركيا إلى طلب اجتماع تشاوري، بناء على المادة الرابعة من ميثاق «الناتو»، لكن ليس في الأفق الحالي أي مجال لتفعيل المادة الخامسة المتعلقة بالدفاع المشترك. احتواء الأضرار هو المظلة التي خرجت تحتها مواقف اجتماع «الأطلسي»، على تنوعها، لكن مع تأكيد آخر بأن الوجود الروسي يغير قواعد النفوذ، وحتى تقييمات «الحلف» لحركة قواته.

وفي أجواء التأهب الأمني الأقصى المستمر في بلجيكا، خوفاً من هجمات ارهابية وشيكة، سارع سفراء «الحلف» لاجتماع دعت إليه أنقرة. إنها المرة الأولى منذ خمسينيات القرن الماضي التي تجتمع فيها دوله للتباحث حول استهداف مباشر للجيش الروسي.

الحلف الأطلسي تبنى، كما هو متوقع، رواية أنقرة، على أساس أن الطائرة الروسية قامت «بانتهاك المجال الجوي التركي»، مؤكداً وقوف دول الحلف «متضامنين مع تركيا ولدعم وحدة أراضيها». جاء هذا الموقف على لسان الأمين العام للحلف يانس شتولتنبرغ، بعد انتهاء الاجتماع التشاوري. شدد على أن التقييم الذي نقله لا يأتي فقط مما نقله الأتراك، بل من رصد دول أخرى في «الحلف» قدمت معطيات «متوافقة» مع الرواية التركية.

واعتبر شتولتنبرغ أن ارتفاع مخاطر الحوادث هو «مسؤولية روسية»، لافتاً إلى أنه عبر عن قلقه سابقاً «من الآثار المترتبة على الاعمال العسكرية للاتحاد الروسي بالقرب من حدود حلف الناتو»، قبل أن يشير مجدداً إلى المسؤولية الروسية لأن ما حدث «يسلط الضوء على أهمية وجود واحترام الترتيبات اللازمة لتجنب مثل هذه الحوادث في المستقبل».

بدا واضحاً حرص «الحلف»، في المقابل، على احتواء هذه الأزمة. قال أمينه العام إنه «يبارك» الاتصالات المباشرة التي جرت بين روسيا وتركيا، ويشجع على تكثيفها على أساس أن «الدعوة إلى الهدوء وعدم التصعيد»، الأمر الذي يجعل الديبلوماسية «مهمة لحل هذا الوضع».

في المقابل، اعتبر شتولتنبرغ أن الامكانية مفتوحة للتلاقي مع روسيا، على أساس أن «العدو المشترك يجب أن يكون داعش. المهم أن يركز الجميع جهودهم، بما في ذلك روسيا، على هزيمة داعش». لكن هذا التلاقي لا يزال يصطدم، برأيه، بـ «وجود أهداف مختلفة لموسكو»، لأن «معظم هجمات روسيا كانت على مناطق لا يسيطر عليها داعش».

على كل حال، العارفون بطبيعة سياسة الحلف الأطلسي يستبعدون تماماً انخراطه الآن. الخبير بروكس تغنر، المحلل في مجلة «جاينس ديفنس» الأميركية المختصة بالشؤون الدفاعية، قال لـ «السفير» إن «الناتو لن يذهب أبداً للتصعيد» حتى لو قامت روسيا برد فعل انتقامي «محدود»، قبل أن يضيف أنه «يجب أن يكون الرد الروسي واسعا وبمستوى تدميري كبير، وحينها يمكن للناتو أن يتدخل». لكن في الوقت ذاته، لن يظهر التقييم الحقيقي للعلن لأن «الناتو تاريخياً لا يقوم أبداً بإدانة فعل قامت به إحدى دوله» مهما كان.

الترجيح الذي يحمله تغنر هو يقظة الحلف التامة، مع وجود مواقف متنوعة داخله من وجود حساسية كبيرة تحت سطح التوتر الأخير بين تركيا وروسيا. يشير إلى أن الواقعة الماثلة هي دعم أنقرة الاحتضاني لمجموعات مسلحة تركمانية في سوريا، هي ذاتها المجموعات التي قصفتها روسيا مع إدانة تركيا الشديدة لذلك. يقول إن ذلك يمثل «حرباً بالوكالة سيكون الناتو حريصاً جداً ألا يتدخل فيها».

لكن هذه الحرب لم تعد بالوكالة الآن. ليست النظام ضد المعارضة، أو العكس، بعدما تم استهداف روسيا بشكل مباشر. يقول المحلل العسكري إن ما قامت به تركيا «ليس ذكياً جداً ولا حكيماً»، في أجواء التوتر الشديد القائمة، حتى لو كان ما فعلته تحت عنوان «الدفاع عن النفس» إذا تم اختراق أجوائها.

القضية، برأي محللين آخرين، تؤكد التحولات التي يشهدها الحلف الأطلسي، حتى لو لم تكن ردوده عليها واضحة الآن. هذا ما يؤكده أيان ليزر، مسؤول الشؤون الأمنية والخارجية في المؤسسة البحثية الأميركية «جيرمان مارشال فاوند». يقول خلال حديث مع «السفير» إن الناتو يغادر مرحلة «لم يكن لديه فيها تحديات أمنية عميقة عليه التعامل معها». لكن وجهة هذه المغادرة كما يقول تقود إلى باب واحد. الآن لدى «الأطلسي» تحديان، في الشرق حيث روسيا، والجنوب حيث «داعش»، لكن بحسب المحلل الأمني، فإن «تركيا باتت المكان حيث تجتمع كل هذه المخاطر معاً، بمعنى أن تركيا هي فعلا الدولة الأكثر انكشافا في الناتو الآن».

لكن الانكشاف الأكبر الآن يتعلق بمسار الحل السياسي السوري. الحادث الأخير جاء ليضيف تعقيدات جديدة، لمسار متعثر أصلاً. وزير الخارجية الالماني فرانك فالتر شتاينماير قال إن «كل شيء سيعتمد على طبيعة ردود الفعل بين روسيا وتركيا». لكنه لفت إلى أن التأزم بين دولتين محوريتين، على طرفي الخندق السوري، يعني أنه «قد تتم الاطاحة ببارقة الأمل التي عملنا للتوصل إليها». يقصد تحديداً مسار فيينا، الذي لطالما أشار له سابقاً بوصفه «بارقة أمل». الوزير الالماني تمنى بدوره احتواء التأزم، عبر تواصل مباشر بين الدولتين، على أمل أن «يسود التدبير والتعقّل».

لهجة الحرص الأطلسية جاءت بعبارات تؤكد، شيئاً فشيئاً، أن روسيا استطاعت فرض معادلة نفوذ في سوريا رغم مقاومة تركيا لها. سبق لقائد قوات «الحلف» في أوروبا التحذير من أن روسيا «تنشئ ثالث قبة لها في العالم فوق الساحل السوري». حتى قبل استكمال الجسر الجوي والبحري الروسي، وقبل إطلاق روسيا لعملياتها العسكرية، قال بريدلوف «إننا نرى هذه القدرات المتطورة جدا من الدفاع الجوي بدأت بالظهور (في سوريا)، نحن قلقون من أن (نظام تحصين) قبة A2/AD يتم إنشاؤها في شرق المتوسط».

في الأدبيات العسكرية، يشمل نظام التحصين A2/AD شقين: مكافحة الوصول إلى منطقة، والحرمان من احتلالها. الأول يهدف عملياً لجعل المسؤولين العسكريين أمام «حسابات مخاطر» عالية جداً إلى غير مقبولة، خلال تخطيطهم للتدخل في منطقة معينة. الشق الثاني، المتعلق بالحرمان، يهدف إلى تعقيد محاولات إقامة وجود فعّال عسكرياً، إضافة إلى مقاومته والحد من حرية العمل لتحقيق نتائج سريعة وفعالة.

هناك ما يخص ذلك في التقييم الذي حمله أمين عام الأطسي أمس. القدرات العسكرية الروسية فرضت تحديات معتبرة لقوات الأطلسي وحركة قواته، لا سيما الجيش التركي. الاستجابة لذلك، كما أشار شتولتنبرغ، هي النقاش الجاري الآن «لتحسين الاجراءات المتعلقة بالتنبؤ وتقليل المخاطر لتجنب هذه الحوادث» على اختلافها.

هذه القبة، لتحصين منطقة جغرافية، أتمّت موسكو إنشاءها وتشغيلها في موقعين. الأول والأكبر في كالينينغراد، الجيب الروسي المنفصل جغرافياً على بحر البلطيق، بين ليتوانيا وبولندا. قبة التحصين هناك تشمل مضادات سفن ومضادات طيران، ويعتبرها الأطلسي «مشكلة متنامية» لحركة قواته. القبة الثانية «طورتها» روسيا على البحر الأسود، في شبه جزيرة القرم بعد ضمها، حيث يقول قائد قوات الأطلسي في أوروبا أن «نطاق تغطية صواريخ كروز يغطي كامل البحر الأسود، وصواريخ الدفاع الجوي تغطي 40 إلى 50 في المئة منه».

(السفير)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى