الأوروبيون يستنفرون لتدارك أخطائهم: نحن أمام حرب إرهاب دولي! وسيم ابراهيم
مصغياً إلى كلماته من لسان آخر، بدا الرجل كأنه من قارة أخرى، يمكنها أن توجد مثلاً في كتاب قصص للأطفال عن أوروبا الوردية. قصة بطلها، هذه المرة، حالم آخر بمستقبل مشروع التكتل الأوروبي، مفوضه الحالي للشؤون الداخلية والهجرة ديمتريس أفرامابوليس.
مصيبة هجمات باريس كانت تلقي بظلال ثقيلة على الصالة. لكنها، مثل كل أزمة، تعيد طرح الأسئلة الجوهرية. ارتبك أفرامابوليس قليلاً، كأنه أصيب بالحرج، أمام عيون الصحافيين المصوبة إليه في انتظار ردّه على السؤال. رمق وزير الداخلية الفرنسي ومسؤولين آخرين معه على المنصة، قبل أن يقول إنه لم يكن ساذجاً حينما تجرأ على القول إن الحل، لمن يريده، هو ببساطة: «وكالة مخابرات أوروبية».
بات التقييم الأوروبي واضحاً الآن، ما قبل هجمات باريس الإرهابية ليس كما بعدها. استطاع «داعش» قلب المعادلة الأمنية، تلك التي كانت تفسح مجالات للرخاوة والتقاعس، أو الاستهتار في بعض القضايا. الاجتماع الطارئ لوزراء الداخلية والعدل الأوروبيين أكد تلك الخلاصة. مدير «يوروبول» (وكالة الشرطة الأوروبية) روبرت وينرايت لخص ذلك، خلال مقابلة مع «السفير»، بالقول إن العدو المتربص الآن هو «شبكة دولية من الإرهابيين»، نفذت هجمات أولى في مستوى «يفوق ما رأيناه حتى الآن».
بناءً على تلك الخلفية، قادماً لاجتماع طارئ للتداول في المصيبة المرجح تكرارها، قال أفرامابوليس «أعتقد أنها اللحظة المناسبة للقيام بخطوة إلى الأمام، لوضع الأسس من أجل خلق وكالة استخبارات أوروبية». حين سمع كلماته هذه، معادةً على لسان صحافي سأله أين تصرف عملياً، فقد التوازن قليلاً. فالوزير الفرنسي الذي بجواره كان من بين من أجهضوا، من دون رحمة، أي نقاش حول القضية. بعد لحظة غياب ذهنية أمكن رؤيتها، تمالك نفسه ليقول «إنها فكرة، ربما فكرة مثالية»، معيداً طرح بداهة لكنها تبقى الجوهر «نحن نعمل على الفكرة، على المدى الطويل، لأنها تشكل حاجات أمن أساسية».
نجاح المخطط الإرهابي لـ «داعش» أعاد طرح القضية الحساسة. الاتحاد الأوروبي أزال الحدود، صار مشاعاً جغرافياً لمواطنيه والمقيمين فيه، لكن لا يزال لديه 28 جهاز استخبارات لا تتعاون تعاوناً فعّالاً وكافياً. معاهدة لشبونة، المؤسسة للاتحاد والناظمة له، أبقت الاستخبارات بيد الدولة الوطنية، ليصير المسّ بها بمثابة محرمات سياسية لدول مهمة، تملك أجهزة استخبارات تعتبر من الأقوى في العالم.
ألمانيا بدورها تشارك فرنسا وآخرين هذا الموقف. حين سألت «السفير» وزير داخليتها توماس دو ميزييه عن خلق إطار فعال لتبادل المعلومات، كان جوابه قاطعاً. رد «نحن بالتأكيد سنركز جهودنا على ذلك، لكن لا أتخيّل أننا سنكون مستعدين للتخلي عن السيادة الوطنية»، مضيفاً «يجب أن نركز أولا على تبادل المعلومات بشكل أفضل داخل الأقسام (القنوات الأوروبية) الموجودة. وهذا يتماشى مع زيادة التعاون مع دوائر الاستخبارات في دول غير أوروبية، مثل تركيا ودول أخرى في المنطقة، لنستطيع توفير الأمن لمواطنينا».
في غياب «الحل الأمثل»، رغم فداحة الخسارة في هجمات هزت أوروبا، تم اللجوء إلى مواصلة الترقيع. لكنها سياسة الممكن في النهاية، خصوصاً أن أي تغيير في المعاهدة الأوروبية يحتاج عملاً مضنياً وطويلاً. الحل الآن، كما شددت قرارات وزراء الداخلية هو الرجوع الكف عن الاستهتار الذي كان سائدا بشكل لافت، أثار انتقادات كثيرة من بروكسل. سيتم التركيز على عمل الوكالات الأوروبية المشتركة، لتضطلع بدور مهمّ وتنسيقي في مكافحة الإرهاب، إلى جانب أجهزة الدول الأوروبية منفردة.
يعود الأوروبيون الآن ليكتشفوا أن لديهم أجهزة وأدوات مصممة أساساً لتلافي فجوات أظهرتها هجمات باريس، لكنهم ببساطة أهملوا استخدامها وتقوية عملها. من بين 28 دولة أوروبية، فقط خمس دول ضخّت معلومات إلى «يوروبول» حول «الجهاديين» الأوروبيين، رغم أن لديه نقطة اتصال خاصة بترصّدهم. الآن، تعهد وزراء الداخلية بتفادي التقاعس، مع وعود بضخ المعلومات اللازمة.
«يوروبول» سيفتتح مركزا جديدا لمكافحة الإرهاب بداية السنة، لذلك تعهد الأوروبيون الآن بإعطائه دوراً أكبر، خصوصاً بعد الانتقادات التي جلبتها هجمات باريس لطريقة تنسيق الدول الأوروبية. تم إعطاء صلاحيات جديدة لضباط الجهاز المنتشرين في نقاط تجميع اللاجئين داخل اليونان وايطاليا. نقاط التجميع تلك ستتحول إلى أماكن أمنية. ضباط «يوروبول» كانوا يعملون من هنا ضد شبكات التهريب، والآن سيمدّ مهامهم لتشمل البحث عن أي مشتبه فيهم بالتسلل بين اللاجئين لتنفيذ أعمال إرهابية.
توسيع الصلاحيات طال أيضا وكالة الرقابة الحدودية الأوروبية «فرونتكس». ستعمل أيضا على مكافحة الإرهاب، داخل مجمّعات اللاجئين وعلى الحدود. ما سبق يعمل على تغطية الفجوة الثانية التي يتحدث عنها الأوروبيون، بالنسبة للسيطرة على الحدود الخارجية للاتحاد. التعويل الآن على فعالية «النقاط الساخنة» (مراكز تجميع اللاجئين)، كي يتم فيها تسجيل كل القادمين، لتكفل الوكالات الأوروبية وأجهزة الأمن بتغطية الجانب المتعلق باحتمال وجود «إرهابيين متسللين».
رغم كل المحاولات لعدم الربط مع تدفقات اللجوء، لكن الدول المعارضة بشدة لها تواصل مدّ الجسور السامة. وزير الداخلية السلوفاكي روبرت كاليناك قال، لـ «السفير»، إن فعالية «النقاط الساخنة» لن تحلّ سوى نصف المشكلة. النصف الثاني، ببساطة، إعادة اللاجئين من حي أتوا: «توقيع اتفاقية قبول فعالة وممتازة مع تركيا تشكل 50 في المئة من النجاح لحل المشكلة، حينها يمكن الحديث عن حدود أكثر أمناً بين تركيا واليونان».
الفجوة الأخرى التي تعهد الأوروبيون بسدها تخص أيضا الرقابة الحدودية. لديهم خزان معلومات خاص لمراقبة كل عابر للحدود، هو نظام معلومات «شنغن». المفروض أن تغذّيه الدول الأوروبية بكل المعلومات المتوفرة لديها حول الوثائق المسروقة والمزورة، علاوة على قوائم المشتبه فيهم لقضايا جنائية أو متصلة بالإرهاب. ذلك إما لم يكن يحصل، أو أنه يحصل مع ارتكاب أخطاء تنسيق قاتلة.
المثال على القصور، كما عرضه المنسق الأوروبي لمكافحة الإرهاب جيل دو كيرشوف، هو «الجهادي» مهدي نموش، منفذ هجوم بروكسل على المتحف اليهودي. توقف الألمان عنده، حين مر على أحد مطاراتهم قبل أيام من هجومه، لأنه كان على قوائم «شنغن»، لكن الإشارة عليه لم توضح أن قضيته متصلة بالإرهاب. لذلك، اكتفى الألمان بإخطار عادي وجهوه للفرنسيين، في حين أنه كان بإمكانهم احتجازه.
هناك أدوات أمنية عدة خرج الاجتماع الطارئ بضرورة توفيرها عاجلا، على رأسها سجل المسافرين، المعطّل بسبب تحفظات البرلمان الأوروبي من انتهاكه لحرية المواطنين. مع نهاية السنة يفترض أن يكون جاهزاً، فتصير كل شركات الطيران، للرحلات الخارجية والداخلية، مضطرة لتقديم قوائم مسافريها لخزان معلومات أوروبي مشترك ومرتبط بالأجهزة الأمنية المختلفة.
مع تمام هذه الخطوة، ستكون هجمات «داعش» قد وجهت ضربة مؤلمة لحقوق الخصوصية لدى الأوروبيين. عارض البرلمان الأوروبي «سجل المسافرين» طويلا، على أساس عدم ضرورته بدليل خريطة الهجمات التي وقعت، لكنه سيضطر للرضوخ تحت الضغوط الهائلة بتحميله مسؤولية إحداث ثغرة أمنية.
حرية الحركة الكبيرة سيتم الحد منها أيضا. طلب الوزراء تعديل اتفاقية «شنغن»، كي تسمح بتدقيق منهجي وغير محدود زمنيا على الحدود الخارجية، يشمل أيضا المواطنين الأوروبيين. التعديلات ستأتي لاحقا، لكن لا أحد سينتظرها. سيبدأ الأوروبيون «فورا» عمليات تدقيق منهجي على الحدود، باعتبار أن الاتفاقية الحالية تسمح بها مؤقتا. عمليا، لم يعد معروفا ما هو المسموح والممنوع وفق الاتفاقية. «شنغن» معطلة، على الأرض، بسبب إجراءات التدقيق الحدودية. فرنسا مستمرة بها حتى إشعار آخر، ما دام التهديد الإرهابي موجودا كما قال وزير داخليتها. دول أخرى تواصل إجراءات الرقابة، خارج مهلة الشهرين المسموحة، لكن المفوضية وجدت الآن لها مبررات لتمديد المهلة حتى ستة أشهر.
إيجاد التبريرات قضية مصير للقول إن «شنغن» صامدة، رغم التصدعات والخروقات الواضحة. لأن حرية الحركة هي أكبر منتجات التكتل الأوروبي، تجد المفوضية نفسها مضطرة لعدم الاعتراف بالتصدعات الكبيرة. أفرامابوليس قال، لـ «السفير» ردا على تلك المسألة، «شنغن ليست على المحك، يجب أن يكون الجميع أكيدا من ذلك».
حيثيات كثيرة، في المجالات السابقة، تم الحرص على إظهار أن إنجازها أمر طارئ، بما فيها تشديد الرقابة على تجارة الأسلحة الفردية. الخطوات الجوهرية تبقى مؤجلة، بعهدة أوروبا الوردية. الوزير الفرنسي قال إنه جاء يستنفر نظراءه لمكافحة الإرهاب، مشددا على أنه يعوّل على «أوروبا التي نحب، أوروبا التي بنيناها». إنها أوروبا المقيمة في أزمات حاضر، يغصّ بالمزاج اليميني بتنويعاته، ولا يواتي الوجهة المرسومة لمستقبلها.
(السفير)