الانتفاضة حية ومستمرة
غالب قنديل
عندما انطلقت التحركات الشعبية والعمليات الجريئة التي بادر إليها الشباب الفلسطيني في الأرض المحتلة عام 48 والضفة الغربية المحتلة ومع ظهور تداعياتها في قطاع غزة ارتسمت معالم نهضة فلسطينية جديدة زاد من وهجها القوي انصراف الواقع العربي شعوبا وقيادات وأحزابا إلى أولويات أخرى لواستثنينا حزب الله وسورية رغم جراحها العميقة النازفة.
اولا فوجئت الفصائل الفلسطينية جميعا بما يجري على الأرض وصدم الكيان الصهيوني لحقيقة ان ما يجري ليس ناتجا عن حركة شعبية تقودها فتح او حماس وتريد استثمارها في فصول الصراع والتفاوض كما جرى في السابق فقد ساهمت آثار الانتفاضتين السابقتين شق الطريق إلى اتفاق اوسلو وفرض انكفاء الاحتلال عن قطاع غزة.
هذه المرة بدا كل شيء غامضا فلا شعارات سياسية ولا هيئات قيادية معتادة تعلن عن الخطوات والعمليات وكانت معلومات أجهزة استخبارات العدو مصدرا لحيرة رئيس الوزراء وقيادة الأركان في جيش الاحتلال امام تعاقب عمليات الدهس والطعن وجاهرت التقارير الصهيونية بأن جميع الاستقصاءات والتحقيقات التي أجراها الصهاينة توصلت إلى أن جيلا جديدا من شابات فلسطين وشبابها يخرج إلى الميدان وهو من خارج آلة الضبط والربط القيادية لأي من الفصائل السياسية والعسكرية المعروفة.
لم تلتقط في كل الجهد الاستخباراتي للكيان الصهيوني أي إشارة إلى هوية تنظيم سياسي جديد يقف وراء ذلك الجحيم الذي يتهدد قوات الاحتلال والمستوطنين وجحافل الشرطة الصهيونية في كل مكان وبغض النظر عن ميزة تركز الجهد المقاوم والتحركات الشعبية في المناطق الواقعة على تماس مباشر مع قوات الاحتلال والمستعمرين الصهاينة كمنطقة الخليل لكن روحا ثورية جديدة كانت تجتاح أقاليم فلسطين الثلاثة والقيادات السياسية التقليدية بجميع تياراتها بدت لاهثة خلف الحدث وجاء انضمام الجهد الفصائلي إلى التحركات بمثابة استجابة لنهوض الشباب الفلسطيني المبادر وعلى أصداء بطولات لأفراد مغمورين لا عهد لهم بالعمل من خلال التنظيمات الفلسطينية المختلفة أو تحركوا منفردين من غير تعليمات أو قرارات اتخذتها لفصائل التي ينتمون إليها او يرتبط بها مناضلون يتصلون بهم بعلاقات قرابة أو جوار.
ثانيا طالبات وطلاب وفتيان وفتيات بذلوا دماءهم بسخاء في نوعية جديدة من العمليات الاستشهادية وعبر تظاهرات تحركت بصورة متزايدة الاتساع جرى تعميم الدعوات إليها عبر وسائل التواصل الاجتماعي وفي المعاهد والجامعات وتجدد اندلاعها بعد كل مواجهة وفي كل تشييع للشهداء واتسعت رقعتها وتضاعفت أعداد المعتقلين في أقبية التحقيق الصهيونية كما تكررت عمليات قتل الشباب والأطفال الفلسطينيين على يد جنود الاحتلال والمستعمرين الصهاينة ولم يفت ذلك من عضد المنتفضين كما لم يثن مزيدا من المقاومين عن الاستشهاد بعد قتل المزيد من الغزاة المغتصبين وآخرها ما جرى في قلب فلسطين مؤخرا.
لا ينقص هذه الانتفاضة شيء عن سمات الانتفاضتين الكبيرتين السابقتين إلا انها غير خاضعة لسقف سياسي مسبق يجعل منها أداة لتحسين الشروط التفاوضية مع العدو أو لاختبار الرهان على فرصة للحصول على بعض المكتسبات السياسية لقيادة قطاع غزة او لسلطة رام الله المنقسمتين والعاجزتين عن الاتحاد رغم كل الكلام والاتفاقات النظرية والمفترقتين عند حسابات سياسية مبنية على مقدار حظوة كل منهما في الدوائر الغربية السعودية القطرية التركية .
الشعب الفلسطيني يثبت مرة اخرى انه يمتلك وعيا وطنيا يتطور وإرادة مقاومة تشتد وهو يعيش تناقضا جديا مع جميع الأوهام السياسية للقوى الفلسطينية التقليدية ويوما بعد يوم يتأكد سقوط رهان الكيان الصهيوني وقادته على إمكانية دفع الفلسطينيين إلى اليأس والإحباط مجددا فاندلاع الانتفاضة هذه المرة يعبر عن رسوخ خيار المقاومة وفكرة التحرير رغم تواضع الإمكانات التي ينطلق منها المقاومون الشباب أمام مئات ملايين الدولارات والشيكلات المكدسة في خزائن التنظيمات والفصائل وكميات السلاح الضخمة التي توظفها سلطة رام الله لصالح التنسيق الأمني مع الاحتلال في مطاردة المقاومين بينما الترسانة العسكرية في غزة مخنوقة بقرار سياسي يحكمه الرهان على هدنة طويلة .
ثالثا ليس امام الشباب الفلسطيني المقاوم غير القتال والانتفاض ولا مكان للمهادنة لأن كثيرا من الأوهام والرهانات التسووية جربت وتساقطت ولم تبدل شيئا في حقيقة الاحتلال الغاصب ولا في تضخم وحش الاستيطان والتهويد وجميع صناديق الإعانة ووعودها لم تمنع البطالة والجور الاجتماعي والضيق الاقتصادي والتمييز العنصري ضد الفلسطينيين الذين اختبروا أوهام النخب التالفة عن مواطنة افتراضية في ظل الكيان الصهيوني وعن سلطة مستقلة تحت الوصاية وعن دويلة في غزة تهجر شعار كامل التراب مقابل جنة تجارية موعودة بالمال القطري وبالشراكة مع تركيا وإسرائيل لن تخدم سوى مصالح البيرقراطية الغزية الطامحة لكسب الأموال وللتجارة عبر المرفا وشركات استثمار النفط الذي تطالب إسرائيل مقابله بنزع سلاح المقاومة في القطاع وبتكريس الاعتراف بالكيان والانفصال عن أهل الضفة مقابل أجزاء من سيناء وفق صفقة قبلها الأخوان المسلمون بدعم تركي ووقعوا عليها عشية انتخاب محمد مرسي للرئاسة المصرية في السفارة الأميركية بالقاهرة.
سيولد التعبير السياسي الجديد من رحم الانتفاضة الثالثة وسيكون المخاض متعرجا لكنه سيبلغ مرحلة النضج والتبلور طالما الإرادة قوية وحاضرة والوعي الوطني التحرري يتجذر بقوة التناقض الوجودي مع الاحتلال الاستيطاني الصهيوني فتلك هي سنة التاريخ … الانتفاضة الثالثة تحتاج كلاما سياسيا واضحا من جميع الأحرار في البلاد العربية واحتضانا شاملا إعلاميا وسياسيا وشعبيا وهي تفرض مراجعة قاسية لأوهام الفصائل المتكيفة مع المعادلات القاهرة او المراهنة على الحكومات الرجعية التابعة التي يضعها السيد الأميركي في خدمة كيان العدو وتتحول مونتها على أي قيادة او زعامة إلى قناة مساومة وخضوع على حساب قضية فلسطين التي تهرول الأنظمة التابعة للهيمنة الاستعمارية إلى محاولات تصفيتها المتكررة منذ خمسين عاما مع انطلاق ما عرف بالحقبة السعودية في المنطقة ومع كل محاولة جديدة للتصفية تنهض موجة جديدة من المقاومة وتولد انتفاضة شعبية جديدة لأن فلسطين لا تموت في قلوب أبنائها وها هو الجيل الفتي من أبنائها يوقظ حلم التحرير والعودة … المجد للانتفاضة والمقاومة والخزي للمتخاذلين في كل مكان.