بقلم غالب قنديل

النفايات وحلقة العجز

zibalal 600x320

غالب قنديل

تتجاوز الأزمات الضاغطة على الشعب اللبناني حدود المنطق والمعقول وتتزامن وجوه المعاناة المتعددة بلا قعر ظاهر لهوة العجز السحيقة التي تستغرق السلطة السياسية القائمة ويطال الأمر بنية المؤسسات وقوانين الانتخاب المنتجة للتوازنات والعقلية السائدة في التعامل مع المشكلات القائمة ويستمر الدوران في سلسلة الحلقات المفرغة أزمة تجاور أزمة والحكاية ذاتها : استثمار سياسي في السمسرات والعمولات وثقة مفقودة بين الناس والسلطة القائمة وكل التدابير والقرارات تسير على خيط مشدود يقود إلى تثبيت العجز والعقم .

أولا شكلت أزمة النفايات ميدانا لتظهير مجموعة من العلامات الفارقة في الواقع اللبناني وهي تصلح كمختبر سياسي نموذجي لوضعية الاستعصاء والعقم والمراوحة فقد كشفت دفعة واحدة علل أهل الحكم وعاهات أهلية شائعة ومزمنة في طريق التصرف والتفكير كما كشفت الخلل الفادح في وضعية النخب السياسية والطلائع العاملة في الشأن العام من خارج مؤسسات السلطة.

دفعة واحدة ظهر العجز التام عن إنتاج حلول منطقية لأزمة النفايات المتراكمة منذ أشهر وبعد تفاقم المخاطر والتهديدات الصحية والبيئية الداهمة الناتجة عنها وعاد يطل برأسه الخيار التقليدي للحريرية في التعامل مع المشاكل : نفقة عامة مستعجلة لحل سهل هو شحن النفايات إلى الخارج بكلفة عالية يتحملها اللبنانيون من دين الخزينة العامة .

طبعا ليست المطامر قدرا والسلطات اللبنانية التي اختارت الأسهل والأربح في صيغة سوكلين وعقودها الفضيحة لم تضع بالأصل خطة وطنية تتلافى مخاطر هذا الطريق لصالح الفرز والمعالجة والتدوير حيث تستثمر النفايات من قبل البلديات وتدر أموالا تصرف لصالح التنمية كما تفعل سائر البلدان المتحضرة .

ثانيا الشلل الذي يميز الواقع السياسي القائم مرتبط بالاستعصاء العام للتوازن النيابي العاجز عن توليد آليات حكم طبيعية وبالمقابل يمنع المتحكمون بالسلطة تغيير هذه المعادلة وفك الاستعصاء بانتخابات نيابية عادية بعد فرض التمديد للمجلس النيابي من جانب الغالبية الحريرية – الجنبلاطية.

ظهرت في سياق التحركات الشعبية فكرة قانون الانتخاب النسبي لكن الأطراف السياسية الوطنية الداعية لهذا الخيار لم تكن في مستوى العمل لبلورة حركة شعبية قادرة على فرضه واكتفت بإصدار البيانات والمشاركة في بعض التحركات بصورة رمزية فلم يشهد البلد حملات تعبئة سياسية وشعبية تحت عنوان القانون الانتخابي النسبي الذي يفترض نظريا ان يتحول إلى مطلب مركزي لتحرك هادر يحاصر الغالبية الحاكمة ويرغمها على الرضوخ بعدما كشرت عن أنيابها في وجه هذا المطلب الديمقراطي البسيط والبديهي.

إجراء الانتخابات على أساس النسبية ليس حدثا ثوريا تاريخيا في عرف المجتمعات المعاصرة بل هو أمر طبيعي وأقل من اعتيادي لكنه في لبنان يعني ثورة سياسية تقلب معادلات التمثيل والقرار وتوازنات مجلس النواب عبر سحق قيود الاحتكار السياسي للتمثيل الطائفي وبالتالي سحق الاصطفاف السياسي المنتج للتوترات والعصبيات الطائفية والمذهبية في المجتمع وهذا البعد يفسر اللقاء بين الحريرية وجنبلاط على رفض إجراء الانتخابات ومن ثم على منع الخيار النسبي لأنه سيبدل قواعد الحياة السياسية وسيقود إلى ظهور الحجم الحقيقي للقوى المكونة للغالبية الحاكمة.

ثالثا لم تعجز قوى الثامن آذار وسائر القوى التي تتصدر واجهة معارضة النهج الحريري السائد فحسب عن التقاط لحظة القابلية الشعبية للتحرك انطلاقا من أزمة النفايات بل إن خليطا من التقاعس والخمول والبلادة الفكرية والتنظيمية انتج مشهدا محبطا للجماهير اختلطت فيه فجاجة الحسابات الذاتية للوجاهات المعارضة ومطامح تأكيد الحضور بأوهام مقيتة حول زخم الحراك الشعبي ودرجة استجابة الشارع لقيادات متخبطة وغير واضحة ومن دون برنامج او خطة عمل للتغيير تقدم بديلا واقعيا للسياسة الاقتصادية والمالية العامة المبنية على الخصخصة والتقاسم والاستدانة المستمرة ومع كل الاحترام فقد تصور بعض الرفاق المناضلين فجأة أنهم باتوا في مكانة رامبو خطيب الثورة الفرنسية او في منزلة البلاشفة على أبواب قصر الشتاء عشية اكتوبر واعتبروا كل نقاش في التحركات التي شهدناها نوعا من الاعتداء والتطاول على إنجازاتهم الخاصة التي سعوا إلى نبذ كل شريك مقترح للانخراط فيها على أرضية حوار ونقاش موضوعيين ولم ينتبهوا إلى ان حشودا شعبية ضخمة متزامنة لحركة امل والتيار الوطني الحر جمعت مئات الآلاف من شعبهم الموجوع أي عشرات أضعاف ما ظنوه طوفانا جماهيريا يفوضهم ويهتف لهم فسكروا بمشهديته على أهميته وقيمته الكبيرتين.

بكلمة إن مأزق التغيير الجوهري هو غياب البرنامج والقيادة وإن كان من مهمة للجماعات المتمردة والفصائل والأحزاب اليسارية والقوى الوطنية والقومية فهي الحوار لإيجاد مخرج علمي من هذه الهاوية بما يتيح الارتقاء بالوعي الشعبي من المراوحة عند عصبيات الطوائف والمناطق إلى الهم الوطني الاجتماعي العام الذي تحتاجه إعادة بناء الدولة بزخم ينطلق من فرض قانون الانتخاب النسبي والجلسة النيابية المقررة هي مناسبة للتحرك الشعبي الضاغط فلينطلق النقاش من هذه النقطة التي ييبدأ منها الجهد الفعلي لكسر الاستعصاء .

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى