مسار فيينا
ناصر قنديل
– تفيد المعلومات المتقاطعة من أكثر من مصدر والمتواترة تباعاً، أنّ وزيرَيْ الخارجية الأميركي جون كيري والروسي سيرغي لافروف كانا ضابطَيْ إيقاع في لقاء فيينا وليسا خصمين يقود كلّ منهما حلفاً على جبهة تفاوض، فقد كان الوزير الأميركي مهتمّاً بامتصاص واحتواء الغلوّ السعودي في محاولة أخذ اللقاء إلى مناقشة عقيمة ستؤدّي إلى تفجيره ومنعه من تحقيق أيّ اختراق تحت شعار «أولوية رحيل الرئيس السوري بشار الأسد»، كشرط لنجاح أيّ مسار سياسي حول سورية بينما كان لافروف مهتمّاً بتأكيد الطابع الهام والاستثنائي للمشاركة الإيرانية في اللقاء وما تضيفه من قيمة وفاعلية للمحادثات من أجل إنجاح المسار السياسي، ليتولى الوزير الإيراني تلقّف الطابة وخوض المواجهة بإسناد ناري روسي إعلاناً للتمسك بالرئيس السوري من جهة، وبلا أحقية أحد في مناقشة الرئاسة السورية بالنيابة عن السوريين، من جهة ثانية.
– حجم التفاهم الروسي الأميركي القائم على بنود جرت صياغتها في البيان الختامي ما كان ممكناً أن تخرج عن لقاء فيينا كحصيلة لما جرى من مناقشات، لو لم تكن صياغتها قد جرت بعناية مسبقة من قبل، لكونها جاءت ملخصاً لمبادئ وثيقة سياسية تختصر تفاهماً على شكل التعامل مع مندرجات الحرب والأزمة في سورية وملفَيْ الحرب والحلّ السياسي بالتوازي والتكامل بينهما، فمن يقرأ البيان سيجد حسماً لوحدة سورية في وجه دعوات الفدرالية التي قال الكثير من الساسة والمسؤولين الأميركيين أنها صارت في أحسن الأحوال شكل الدولة السورية الجديد إذا تمّ النصر على الإرهاب، بينما ذهب الأشدّ تطرفاً بينهم للقول بتقسيم سورية على أساس خطوط الديموغرافيا، وصولاً إلى كلام مدير المخابرات الأميركية بأنّ وحدة سورية التي نعرفها كوحدة العراق صارا شيئاً من الماضي، والبيان ليست أهميته هنا من كونه التزاماً كلامياً، فهو يشبه القرار 425 بالنسبة لتحرير الجنوب اللبناني، كان سيبقى بلا قيمة لولا وجود مشروع المقاومة التي قامت بخوض حربها لإنجاز التحرير، من دون أن يستطيع أحد القول بلا شرعية الفعل، وصدور البيان عن لقاء فيينا بالتمسك بوحدة سورية غطاء شرعي لحرب حقيقية يخوضها ويتقدّم بالإنجاز فيها الجيش السوري مدعوماً بغطاء جوي روسي ودعم وإسناد من حليفه الإيراني وحليفه الأقرب من قوى المقاومة، والأهمّ التركيز في البيان على طابع الدولة السورية كنظام سياسي يتمسك بلاطائفية الدولة وعلمانيتها وفقاً لبعض الصياغات، واحترامها للتعدّد الديني والطائفي من دون اعتماده أساساً صالحاً لإعادة تكوين الدولة، وهذا سقوط نهائي لنظرية جون كيري نفسه التي ردّدها مع سعود الفيصل في مؤتمر ما سُمّي بـ«أصدقاء سورية» في الدوحة في 30 حزيران 2012 عندما دعا إلى حكم تتولى فيه الأغلبية الطائفية رئاسة الدولة، والبيان إعلان وفاة للصيغة السعودية التي تبناها وتغنّى بها المبعوث الأممي ستيفان دي ميستورا بقوله إنّ المثال اللبناني يشكل مصدر إلهام لسورية الغد، والقصد الواضح هو اتفاق الطائف والتوزيع الطائفي لمناصب الدولة ومؤسساتها، وسورية الموحّدة والعلمانية شرط سوري صار روسياً ـــــ إيرانياً لأيّ مسار سياسي يشكل تثبيته إنجازاً لنصف المسافة اللازمة لبلورة ما سينتج من هوية لسورية لما بعد النصر على الإرهاب في نهاية الطريق، لأنه يعني إضافة للدولة المتماسكة، صوناً لشروط استقلالها بقطع طريق تقاسمها حصصاً إقليمية بِاسم التوزيع الطائفي.
– بيان فيينا ينص على أولوية الحرب على الإرهاب من جهة، والخروج من تصنيف الإرهاب بين جيد وسيّئ من جهة ثانية، فينهي أكذوبة اللعب على مسار تبييض «جبهة النصرة» ويشملها مع «داعش» كأهداف للحرب، وهذا يعني وضع معيار محدّد للدول الإقليمية المعنية وللأطراف المحسوبة تحت عنوان المعارضة السورية، للمشاركة في أيّ عملية سياسية، بضرورة العبور من بوابة المشاركة في الحرب على «النصرة» و«داعش» وقطع أيّ صلة بهما، وهذا يصحّ للسعودية وتركيا ويصحّ كثيراً لقادة الائتلاف المعارض.
– يُنهي بيان فيينا عملياً، رغم استمرار الصراخ الكلامي، قضية هيئة الحكم الانتقالي، وآلية الانتقال من الحرب إلى السلم فيحسمها عبر صندوق الاقتراع، وتقديم الضمانات اللازمة لتمثيل يعبّر عن شرائح السوريين كلّها، وتحقيق أوسع مشاركة متكافئة في الترشيح والاقتراع لجميع المكوّنات، لكن لا بحث بعد الآن في معادلة توحي ضمناً بالوصاية التي يمكن لأيّ هيئة أو جهة ممارستها بادّعاء أحقيتها في التدخل في تحديد مَن يتولى ومَن لا يتولى المناصب القيادية في الدولة السورية، وهذا الاحتكام للصناديق يعني إنهاء العنوانين السعودي والتركي لمقاربة الحرب والحلّ السياسي في سورية.
– سيخوض الأميركي علاقته بحليفَيْه التركي والسعودي بعد فيينا وفق معادلتين، عسكرية، تقوم على الدعوة لحشد الجهود لسباق مع الجيش السوري والغطاء الروسي للإمساك بالحرب على «داعش» طالما تخوض سورية وروسيا حربهما ضدّ «النصرة»، باعتباره الطريق الوحيد لإقامة نوع من التوازن الميداني الضروري تفاوضياً وسياسياً، سيقول الأميركي استعدّوا لمنافسة انتخابية رئاسية وبرلمانية ونظموا صفوف المعارضة لهذه الغاية بعد إفهامها أن لا إمكانية لتبرير أيّ شكل من العلاقة بـ«النصرة» بعد الآن. وستكون مهمة الأميركي غير سهلة، للحصول على تجاوب سعودي ـــ تركي، لأنّ خيارات حلفاء أميركا ناتجة أصلاً عن غياب معارضة بعيدة عن «النصرة» و«داعش» ومفردات «القاعدة» قادرة على خوض منافسة عسكرية أو انتخابية، لكن الأميركي الذي يدرك حجم التغيير الناتج عن الدخول الروسي على خط الحرب والتحوّل المرتبط بالميدان الآتي تباعاً، يعرف أنّ بيده أوراق تأثير تبدأ مما فعله في الانتخابات التركية، وحصر اهتمام الحكومة الجديدة بعد فوز حزب العدالة والتنمية بما يمكن تسميته بالأمن القومي التركي والعلاقة مع الأكراد، وليس إعادة صياغة سورية وفقاً لمنطق العثمانية الجديدة، والانضواء تحت الإبط الأميركية في مسارَيْ الحرب والحلّ السياسي. وبالنسبة للسعودية يترك الأميركي الاستنزاف اليمني يفعل فعله، حتى تصرخ السعودية، ويبدو أنها تقترب مع الإعلانات المتكرّرة عن انتهاء العملية العسكرية التي تصدر مرة عن وزير الخارجية السعودي ومرة عن الأمين العام لمجلس التعاون الخليجي.
– مسار فيينا نواة رسم خريطة نظام إقليمي جديد من البوابة السورية.
(البناء)