شوشو: اربعون عاما والآخ تتصاعد…
فاطمة طفيلي
يمضي الزمن ويغيب الكبار في غفلة منا، وترانا لا نملك إلا الحسرة على ما فات عندما نتذكر احدهم عرضا، نتحسر على زمن مضى، بتنا نسميه الزمن الجميل، لا لشيء إلا لأنه انطوى على مآثر وانجازات ومواهب حفرت لها امكنة من العدم، وصنعت اسماءها بالكد والمثابرة المستندة الى الموهبة والإبداع، فكانت لها الريادة في عوالمنا ولا سيما الفنية منها.
يمضي الكبار ويتركون إرثا حافلا وخالدا عصيا على الزوال، تتناقله الأجيال وتتغنى به رغم كل مقولات التجديد والعصرنة، عملا بالقول المأثور “من لا ماضي له، لا حاضر ولا مستقبل”، وإن كان لكل عصر جيله وكباره، إلا أن زمن العمالقة والرواد يبقى الأساس الصلب، الذي يستند اليه الهواة والمحترفون على السواء ليشقوا طرقهم الخاصة، فتراهم ينجحون في البدايات، ثم لا يبقى منهم إلا القلة القليلة عندما يتحولون الى الخاص.
تنشغل الشعوب العربية بفلسفة ما يساق إليها من عناوين وأفكار تلهيها عن الهموم والحاجات الأساس لأوطانها، وتنسى أنها صاحبة تاريخ وحضارة كانت لها الأسبقية في العلوم والآداب والفنون والكثير من مجالات التطور والرقي، التي ميزت عوالم الغرب، بعدما تحولنا من عاملين منتجين الى مستهلكين خاملين لا نملك أكتر من الشعارات الرنانة.
تتعقد الأمور في بلادنا، فيما الحلول أبسط مما نتخيل شرط أن يكون القرار نابعا من قناعات داخلية تقدم المصلحة الوطنية على ما عداها من مقولات وأفكار ووصفات قد تناسب واضعيها ولكنها ليست العلاج السحري الشافي، الذي يصلح للعموم، بدليل ان لكل بلد خصوصيته وظروفه ورؤيته للأمور، واستنادا للتجارب المريرة، التي شهدتها وما زالت دولنا العربية باسم خريف أوهمنا أنفسنا بأنه الربيع الموعود.
تخوننا الذاكرة ونغرق في عوالم الاغتراب عن واقعنا وننسى ماضينا وما فيه من أمجاد وأسماء، وها هم كبارنا يرحلون الواحد تلو الآخر، نتغنى بما أعطوه في حينه ثم نغرقهم في النسيان، وبالامس القريب كانت الذكرى الثانية لرحيل الكبير وديع الصافي دون ان يتذكره سوى العائلة واقرب المقربين.
2 تشرين الثاني 1975 ، من منكم يتذكر ذاك التاريخ، يوم رحل واحد من عمالقة الفن في لبنان، وكان لإسمه وقعه الرنان وهو بعد في قمة عطائه وتألقه، ولكن شأنه شأن كثر ممن أفنوا حياتهم في هذا المجال وانتهوا نهايات محزنة، منسيين كأي عابر سبيل، مع فارق أن المرض أعياه وهو في مقتبل العمر، وأضنته أعباء الحياة، فرحل مبكرا.
حسن علاء الدين المعروف بـ”شوشو” صاحب البسمة الموجعة لما تبطنه من مرارة وألم على واقع كان محترفا في نقده له وتصويره بسخرية بلغت حدا دفع ثمنه اعتقالا أو منعا لمسرحيات كانت تضع اليد على الجرح وتتلمس آهات الناس وأوجاعهم فتطلقها صرخة مدوية بوجه مسؤولين كانوا حينها في مقدمة رواد مسرحه الحريصين على متابعة أعماله، ومنهم مع حفظ الألقابكميل شمعون، وصائب سلام، وسليمان فرنجيه، وكمال جنبلاط…
حسن علاء الدين “شوشو” أضحك الجميع بفطرته وشاربيه الكبيرين، وشعره الأجعد وجسده النحيل الذي كان مطواعا الى درجة مذهلة ساعدته في صولاته وجولاته على المسرح، كما عبر الشاشتين الصغيرة والكبيرة، دون أن ننسى ذاك الصوت واللكنة الفريدة التي عشقها الصغار والكبار، واجتهد الكل في تقليدها. جمع مسرحه كبار الفنانين ومنهم كوكب الشرق السيدة أم كلثوم التي قيل إن صدى ضحكاتها كان يتردد في أرجاء المسرح الوطني، وهي المعروفة بأنها لا تضحك إلا نادرا، إضافة الى أسماء كبيرة أخرى مثل محمد عبد الوهاب، فريد الأطرش، عبد الحليم حافظ، وعميد المسرح العربي يوسف وهبي، وفريد شوقي وناديا لطفي…
شوشو الذي لم يدرس المسرح حفر اسمه بين كبار رواده وكان أول من عمل على مسرح الطفل في الشرق من خلال اربعة أعمال شاركته إحداها، مسرحية “جوا وبرّا- 1972” الممثلة المصرية هالة فاخر. ورغم رحيله المبكر ترك لنا 28 عملا مسرحيا أرسى من خلالها دعائم المسرح الشعبي المطعّم بالنقد السياسي الساخر، أشهرها مسرحية “آخ يا بلدنا”، التي قدمها قبل عام واحد من اندلاع ما سمي بالحرب الأهلية اللبنانية، التي قضت على آحلام شوشو وأدخلته في حزن عميق بعد احتراق مسرحه، ما دفعه الى الإكثار من القهوة والتدخين حتى تدهورت صحته.
آخر مسرحيات شوشو كانت “الدنيا دولاب” عام 1975، شاركته بطولتها الفنانة المصرية نيللي والممثل المصري حسن مصطفى. وآخر عرض مسرحي قدمه كان في شهر آب من العام 1975 في الأردن. أصابته نوبة قلبية وهو في طريق العودة فعولج هناك، ثم عاد الى وطنه حيث توفي في الثاني من تشرين الثاني من العام 1975.
كان شوشو ينوي إنتاج جزء ثان من مسلسل “الدوامة”، وقد اتفق على العمل مع الفنانتين نيللي ونجلاء فتحي، كماكان يعمل على مسرحية بعنوان “زوجة الفرّان” مع المخرج يعقوب الشدراوي قبل أن يحترق مسرحه وتنسف الحرب كل أحلامه.
أربعون عاما على رحيله وما تزال أعماله حاضرة في وجدان كل من عاصر تلك المرحلة، وفي البال أول دور درامي للراحل في مسلسل “المشوار الطويل” الذي شاركه البطولة فيه الفنان المصري القدير محمود المليجي والفنانان اللبنانيان مارسيل مارينا وجورج شلهوب، دون أن ننسى عشرات الأفلام السينمائية المشتركة مع فنانين عرب ولبنانيين وأبرزها فيلم “سيدتي الجميلة” مع الفنانين نيللي ومحمود ياسين.
أربعون عاما على رحيل شوشو، الألم يكبر والمآسي تتزايد، والآهات تتردد في أرجاء لبنان والوطن العربي عميقة مدوية، ومع ذلك لا أحد يتذكر من استشرف المستقبل وأطلق أولاها تحذيرا وخوفا من المصير المجهول.
رحم الله حسن علاء الدين “شوشو”، وأعاد إنعاش الذاكرة ومعها النذر اليسير من الوفاء والعرفان لرعيل كبير ممن صنعوا تاريخنا المشرق، شوشو واحد منهم واللائحة تطول.