بقلم ناصر قنديل

بوتين والأسد: النصر على النازية الجديدة

nasser

ناصر قنديل

– تتركز التعليقات والتحليلات التي تتناول اللقاء الذي جمع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين والرئيس السوري بشار الأسد، على زوايا من نوع أنها المرة الأولى التي يغادر فيها الرئيس الأسد بلاده منذ بدء الأزمة قبل خمس سنوات، وهذا يجعل الزيارة تاريخية، وذات مغزى يستحق استجلاء أبعادها، أو أنّ الزيارة تأتي بعد الانخراط الروسي الواسع المدى في الحرب على الجماعات المسلحة في سورية تحت عنوان الحرب على الإرهاب، ما يجعل الزيارة ذات طابع يطغى عليه الجانب العسكري، والوصول إلى تقييم مشترك للموقف العسكري بعد ثلاثة أسابيع على بدء مرحلة نوعية من الحرب، وتحديد الآليات المطلوبة والخطوات والقدرات اللازمة لتفعيل التعاون وتسريع الإنجازات، أو أنّ الزيارة تأتي في مناخ فتح الباب فيه على البحث المتسارع في آفاق الحلّ السياسي، وما فرضه الميدان الحربي من تسارع من جهة، ومن معادلات لم يعد ممكناً تخطيها كالتسليم، ولو بتلعثم، بمكانة الأسد ودوره في هذا الحلّ، وفي مستقبل سورية ضمناً من جهة أخرى، تحت شعار الاحتكام إلى صناديق الاقتراع، ليصير الحلّ السياسي ملفاً راهناً سيكون على طاولة فيينا التي ستجمع وزراء خارجية روسيا وأميركا وتركيا والسعودية.

– لكلّ هذه الأسباب مجتمعة تبدو القمة تاريخية، والأكيد أنّ القمة تناولت كلّ المواضيع التي ترد في بال المحللين والمتابعين، لكن الأكيد أنّ القمة تناولتها بعين مختلفة، تلاقي الرؤى الاستراتيجية لأبرز قائدين يصنعان المعادلات الدولية والإقليمية في القرن الحادي والعشرين، ومعهما دون أن يحضرا، قائدان يمثلان إيران وحزب الله، يشاركانهما الرؤية والدور، فالقمة تنعقد على خلفية تطورات تسمح بالقول عملياً، إنه بعد سقوط المعادلات الدولية والإقليمية التي حكمت منطقة الشرق الأوسط والعالم خلال القرن العشرين ما بعد الحرب العالمية الثانية، تتجه المعادلات التي ورثتها إلى السقوط بعد ما فشل مشروع النظام الإقليمي الجديد والنظام الدولي الجديد الذي حاولت أميركا وحلفاؤها الإقليميون، ترسيخه وتثبيته منذ سقوط جدار برلين.

– منذ ما بعد الحرب العالمية الثانية والنصر على النازية، ورغم وجود قوى عالمية فاعلة كفرنسا وبريطانيا وبعدهما دخول الصين وتنامي قوة اليابان، بقي الثنائي الأميركي السوفياتي الذي خاض الحرب على النازية وسجل النصر عليها يتقاسم إدارة العالم، فرسم ثنائيات إقليمية موازية له، فكانت الثنائية الناصرية ــــ «الإسرائيلية» ومقابلها ثنائية ناصرية مع حلف بغداد الذي ضمّ تركيا وإيران الشاه وعراق نوري السعيد، وثنائية ناصرية سعودية في الخليج، وترسّمت التوازنات وحركة الصراع على هذه القواعد من التوازن وبقيت بصورة مشابهة، بعد رحيل الرئيس جمال عبد الناصر وتولي قيادة الرئيس حافظ الأسد لضفة التوازن وصولاً إلى نهاية الحقبة السوفياتية بعد نصف قرن من الشراكة في إدارة العالم والمنطقة، وبروز محاولات لبناء نظام عالمي بأحادية أميركية يرسم معادلات جديدة للشرق الأوسط بصفته المنطقة التي تترسّخ فيها المصالح والقوى، وكانت لهذه المحاولات عناوين آلت جميعها خلال ربع قرن إلى السقوط.

– سقط مسار مدريد للحلّ الشامل للصراع العربي ــــ «الإسرائيلي»، وسقط مسار «أوسلو» للحلّ الفلسطيني ـــــ «الإسرائيلي»، وها هي الانتفاضة الثالثة تدق الباب، ومن جهة أخرى سقط البديل الجديد للنظام الإقليمي القديم، بواسطة الحروب الأميركية فانهارت الحروب ونتائجها في العراق وأفغانستان وما تضمّنته من محاولات إسقاط سورية وإيران، وبعدها سقط ما يُسمّى بـ»الربيع العربي»، القائم على تسليم ما عرف بالإسلام السياسي وعموده الفقري «الإخوان المسلمون»، لحكم المنطقة بشراكة تركية سعودية، وعلى الضفة الأوروبية سقط مشروع توسيع حلف الأطلسي لفرض معادلات جديدة على روسيا، وسقطت الأدوار القيادية لأوروبا عالمياً، ومثلها الأدوار الإقليمية لتركيا والسعودية و»إسرائيل»، وسجل العالم استعادة روسيا لعافيتها الاقتصادية والعسكرية، وبدأت تدريجاً تسجل عودتها إلى صناعة السياسة العالمية تصاعداً وتناسباً مع صعود الدور الإيراني إقليمياً، وظهور المقاومة قيمة مضافة في صناعة القوة ومعادلاتها.

– بدأ التراجع المتدرّج لقوى النظامين الدولي والإقليمي الذي ورث نظام ما بعد الحرب العالمية الثانية، ونسمّيها تجاوزاً بنظام ما بعد سقوط جدار برلين، مع ذروة الفشل في الحرب على سورية، بسحب الأساطيل الأميركية وعودتها دون خوض حرب، وارتضاء القيادة الأميركية أمام صلابة الموقف السوري وحجم الإسناد الروسي الإيراني ودرجة جهوزية المقاومة، بما عُرف بالحلّ السياسي للسلاح الكيميائي السوري، وتدحرج الحلول السياسية الموازية لسائر الأزمات المعقدة أو رسم أطرها، ونصب منصاتها، من الملف النووي الإيراني إلى الأزمة الأوكرانية، وصولاً إلى حرب اليمن.

– كانت سورية وروسيا ومعهما إيران وحزب الله في أساس صناعة كلّ هذه التحوّلات، وبلغت المنطقة والعالم مرحلة من التوازن السلبي الأشدّ خطورة، عندما تتقابل القوى التقليدية، وتقف عند حدود الردع المانع للحرب، والفشل في تحقيق الانتصار الناجز لأيّ منها، فتنشأ في المناطق الفاصلة بين مواقع انتشار الجيوش المتقابلة وبين خطوط الاشتباك ما يُسمّى في لغة الجيوش المناطق الحرام. وهي المناطق التي يحكمها الفراغ وتملؤها قوى طفيلية، تعتاش على الحرب المهرّبون وتجار السلاح وعصابات السلب والجريمة والخطف والفدية، وأحياناً قوى حرب العصابات التي تغيّر المعادلات، كما حدث في حرب الصين التي دارت بين اليمين الحاكم بشخص تشانغ كاي تشك زعيم «الكيومنتانغ»، والجيش الياباني، حيث زرع ماوتسي تونغ جيشه الأحمر في هذه المناطق الحرام، حتى حسم الحرب بالنصر على الجيشين، وقام ببناء الصين وفقاً لمشروعه وصولاً إلى دخول المعادلات الدولية من الباب الواسع فكيف وقد أباح النظام القديم الذي ورث النظام الأشدّ قدماً، في ذروة الشعور بالفشل والخشية من الحرب، لنفسه اللجوء إلى اللعبة الانتحارية فاستجلب إلى المناطق الحرام التي صنعها بنفسه، النازية الجديدة، التي يدرك متأخراً أنها صارت خطراً عليه، ويخشى قتالها لأنه خارج من فشل استراتيجي في حروب البرّ، التي بدونها لا نصر يتحقق، وفي المقابل يخشى من أن ينتج عن هزيمتها نصر القوى الصاعدة لحلف روسيا وسورية وإيران والمقاومة، بملء الفراغ الاستراتيجي وإنشاء نظام إقليمي جديد واستطراداً نظام دولي جديد.

– في مثل هذه اللحظة، يتوقف مصير الإنسانية على قرارات تاريخية، بحجم قرار الحرب على النازية الذي اتخذته القيادتان الأميركية والسوفياتية قبل أكثر من سبعين عاماً، فالفوضى الاستراتيجية ستحلّ مكان النظام، أيّ نظام، عادل أم مستبدّ، أحادي أم متعدّد، والفوضى الأمنية ستحلّ مكان الاستقرار. والنازية الجديدة، قوة تملك جاذبية، وقدرة تعبئة للموارد البشرية والنفسية والمادية، وتملك بحكم دور الغرب في تشكيلها وتدريبها وتعليمها، خبرات ومهارات عصرية وتقنية لخوض الحروب، وتنظيم الدول والجيوش، فلا بدّ من اتخاذ القرار، وهو قرار الحسم في وجه النازية وصناعة النصر مهما كانت الكلفة. القرار الذي بدأ تنفيذه عسكرياً منذ مطلع هذا الشهر وتأتي القمة لرسم إطاره الاستراتيجي، لنظام إقليمي جديد، يتأسّس عليه ومعه نظام عالمي جديد تتشارك فيه سورية وروسيا وإيران والمقاومة ومعهما كلّ القوى الصاعدة في العالم من حلف «بريكس» إلى مجموعة «شانغهاي»، ليس بهدف إلغاء القوى التي كانت تحتكر النظامين الإقليمي والعالمي، ما بعد سقوط جدار برلين، بل لمشاركتها، ولكن وفقاً لقواعد جديدة وبأحجام جديدة.

– ما ناقشته القمة هو كلّ ما ورد في حسابات المحللين حول شروط الفوز بهذه الحرب على النازية الجديدة، وفتح آفاق الحلّ السياسي، لكن بروحية أنّ مَن يُكتب له شرف القضاء على النازية الجديدة سيكتب له صياغة النظامين الإقليمي والعالمي الجديدين، وأنّ الحلّ السياسي في سورية هو بوابة صياغة القواعد الجديدة والأحجام الجديدة للشركاء الجدد في هذين النظامين، الذين هم الخصوم في الحرب التي شهدتها سورية خلال محاولة ترسيخ نظام ما بعد سقوط جدار برلين.

– قمة بوتين الأسد تعادل عقد قمة بين روزفلت وستالين افتراضياً، عشية هجوم النورماندي الذي حسم الحرب على النازية.

(البناء)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى