الهبّة تتعاظم وتتمدد من القدس إلى خارجها حلمي موسى
توشك الهبّة الفلسطينية على إنهاء اسبوعها الثالث في ظل توقعات باحتمالات تصعيدها. وقد تلاشت بدرجة كبيرة تقديرات أجهزة الأمن الإسرائيلية بأن ما يجري ليس سوى «موجة» من «الإرهاب الفردي» لتحل مكانها تقديرات جديدة بأنها حالة جديدة وربما تقف خلفها «يد موجهة». وفي الحكومة الإسرائيلية صراع يحتدم بين من يرى في السلطة الفلسطينية في رام الله جهة يمكنها أن تسهم في تهدئة الأوضاع وبين من يراها عنصرا في إلهاب الميدان. وعلى الصعيد الدولي تزداد محاولات البحث عن سبل لمنع الانفجار سواء من خلال التفكير بوضع مراقبين دوليين في الحرم القدسي أو من خلال محاولة ترتيب لقاءات بين قادة إسرائيليين وعرب.
وخلافا للتقديرات الأولية فإن الهبّة لم تقتصر على الاحتجاجات الشعبية التي غالبا ما كانت تتم في تظاهرات أو حتى في صدامات مع الحواجز الإسرائيلية أو سيارات الدورية، اندفع الكثير من الشبان إلى استخدام أساليب المقاومة الشعبية عبر ارتجال أعمال الطعن والدهس. وبحسب كل التعليقات الإسرائيلية كان مفاجئا أن القدس الشرقية وأبناءها هم من تصدورا هذه الهبّة وشكلوا القاطرة التي تجرّ المناطق والقطاعات الفلسطينية الأخرى. ورغم نجاح السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية، على الأقل في المنطقة «أ» الخاضعة لسيطرتها الأمنية والإدارية فإن الخبراء الإسرائيليين يعتقدون أن هذا النجاح جزئي ومحدود ولن يستطيع منع تسونامي انضمام الضفة للقدس وباقي المناطق. كما أن حساسية القدس لدى الفلسطينيين عموما فإنها قد تكون الشرارة التي تشعل أيضا نيران حرب جديدة بين قطاع غزة وإسرائيل رغم ما يبدو من محاولة الطرفين تجنب ذلك.
ويبدو، اليوم بعد مرور حوالي ثلاثة أسابيع، أن الهبّة تستمد وقودها من تراكم الحقد على الاحتلال وممارساته ليس فقط في القدس وإنما في كل أرجاء فلسطين. وليس صدفة أن أعداداً متزايدة من الإسرائيليين بدأت تشير إلى أن درجة الكراهية الكامنة في أداء الفلسطينيين تعبّر عن عمق موقفهم من الاحتلال ليس فقط الذي جرى قبل حوالي 50 عاما وإنما ما جرى أيضا قبل حوالي 70 عاما. وخلال كل هذه الفترة لم تسمح إسرائيل بنشوء وضع قد يدفع للتصالح أو يبرره وإنما فعلت كل ما بوسعها من أجل تعميق ذلك. ومن الجدير ذكره أن ازدياد ميل الإسرائيليين للتدين واحتلال الأرض وإقامة المستوطنات ورفض التسوية السياسية القائمة على أساس حل الدولتين هو ما خلق مسارات إجبارية للهبّة. ولا يغير من هذا الحال شيء كاستمرار إيمان بعض الفلسطينيين بسبيل المفاوضات أو بالشرعية الدولية. فالمفاوضات والشرعية الدولية طوال هذه العقود لم تقنع الفلسطيني الاعتيادي بجدوى التمسك بهما. بل بوسع أي فلسطيني بسيط أن يظهر لكل من يريد أن درجة التغوّل الإسرائيلي، خصوصا في مجالات الاستيطان في الضفة الغربية والقدس، تعاظمت أساسا في ظل المفاوضات وتحت غطاء السعي لتحقيق تسوية. بل إن خبراء إسرائيليون يقولون إن رؤساء الحكومات، من أحزاب العمل وكديما، كانوا أشد سخاء وتسهيلا للاستيطان حتى من نتنياهو الذي يتفاخر بأنه في سنوات حكمه الست الأخيرة زاد عديد المستوطنين بحوالي 120 ألف مستوطن.
ومن الواضح أن حكومة نتنياهو، حتى وهي تحاول التظاهر بأنها لا تريد تغيير الوضع القائم في الحرم القدسي، لا تنكر سعيها لتهويد القدس. ولأن الائتلاف الحاكم يميني فإن المزايدات تتعاظم لإظهار الائتلاف بأنه ليس أقوى بالكلام فقط من أسلافه فيما يخص الاستيطان، وإنما أقوى بالأفعال كذلك. وهذا يوفر وقودا متزايدا للهبّة وللعداء ضد إسرائيل والاحتلال. وما يزيد الطين بلة في نظر معلقين هو اندفاع ائتلاف نتنياهو لإقرار قوانين تقيد حرية حركة وتعبير العرب في إسرائيل. وليس صدفة أن الحكومة الإسرائيلية أقرت مؤخرا قانونا يسمح للشرطي بتنفيذ تفتيش بدني على المارين (العرب) حتى من دون أن يضطر لاثبات شكوك وريبة. كما أن هناك مشروع قانون يقيد تمويل الأحزاب، خصوصا العربية، إذا أيدت أو نادت أو شجعت على مقاطعة إسرائيل.
وربما أن إسرائيل تختلف عن الكثير من دول العالم التي يتجه فقراؤها نحو الفاشية إذا تدهور الوضع الاقتصادي. فالفاشية في إسرائيل مكون أساسي من الحياة اليومية للمجتمع الصهيوني لكنها تتفاقم مع ازدياد الاحساس بالافتقار للأمان الشخصي. وهي بهذا المعنى مرتبطة جدا بالوضع الأمني. ولكن إذا ترافق الوضع الأمني المتدهور مع ازدياد الأعباء على الاقتصاد الإسرائيلي وبالتالي تراجع أوضاع الإسرائيليين الاجتماعية والاقتصادية فإن الفاشية تترسخ وتتعمق بشدة أكبر.
ويشرح خبراء إسرائيليون بأن الهبّة الشعبية ألحقت أضرارا بالغة بالمؤسسات التجارية الصغيرة والمتوسطة في عدد من المدن الإسرائيلية. وقال خبير أن الهبة وقعت في ظل ما يمكن اعتباره أصلا أزمة اقتصادية جراء عدم توفر فوائض لدى المؤسسات الصغيرة. وحسب مدير لإحدى شركات بطاقات الائتمان تراجع استخدام البطاقات في تشرين أول بحوالي 10 في المئة مقارنة بالأيام الاعتيادية. كما أن مجمعات تجارية كبيرة أبلغت عن تراجع مبيعاتها بشكل واضح ولكن الأضرار كانت أكبر على المؤسسات الصغيرة. عموما معروف عالميا أن التوتر الأمني يضعف ميل الناس للاستهلاك ويدفعهم إلى محاولات الاقتصاد. لكن الوضع كان يطال أصلا مشاريع عمل لا يمكنها أن تدفع الرواتب لأفرادها إن هم لم يمارسوا أعمالهم. وهنا تبدأ المشكلة.
في كل حال، ورغم محاولات متزايدة من جانب جهات دولية، أميركية وسواها، للبحث عن مخارج من الوضع الراهن، يبدو أن الجمهور الفلسطيني غير خاضع لإمرة أحد والأهم لا يبدو أن إسرائيل في وارد إظهار أي تراجع جدي. وربما أن الموقف الإسرائيلي من المبادرة الفرنسية شاهد على ذلك.
(السفير)