روسيا في سورية: الأهداف والانعكاسات د. عصام نعمان
حضور الولايات المتحدة في «سوراقيا» سورية والعراق ولبنان والأردن وفلسطين سابق لحضور روسيا بما يربو على نصف قرن. ترسّخ هذا الحضور بعد انهيار الاتحاد السوفياتي واحتلال أميركا للعراق واندلاع الحرب في سورية وعليها. بات واضحاً اليوم أنّ واشنطن خططت لمجابهة صعود إيران كقوة إقليمية مركزية بمحاصرتها وفرض عقوبات اقتصادية عليها للحؤول دون تحوّلها قوةً نووية، كما باعتماد تيار «الإخوان المسلمين» بمختلف تنظيماته حليفاً بديلاً من أنظمة الحكم المترهّلة والمتساقطة قبل مخاض «الربيع العربي» وبعده.
فشلُ «الإخوان المسلمين» في الاحتفاظ بالسلطة في كلّ من مصر وتونس حمل الولايات المتحدة على تعديل مخططها بعقد تحالفاتٍ مع تنظيمات متعددة داخل «الإسلام الجهادي» لإضعاف خصومها المحليين في سورية والعراق وبين الفلسطينيين ودفع أطراف الصراع إلى مفاوضات على أساس مبادئ مؤتمر جنيف – 1 بغية التفاهم على ترتيبات لتقاسم السلطة بينهم.
أخفقت أميركا وحلفاؤها الإقليميون في حمل الحكم في سورية ومعارضيه على تقاسم السلطة وفق شروطهم في مؤتمر جنيف 2، ما أضعف المعارضين سياسياً وميدانياً وأدّى إلى صعود تنظيميْ «الدولة الإسلامية داعش» و«جبهة النصرة» وسيطرتهما على مواقعهم في مناطق عدّة. وفي العراق أخفق حلفاء أميركا في محافظات نينوى الموصل وصلاح الدين والأنبار في بناء تنظيمات مسلحة لمواجهة «داعش» باستقلال عن حكومة بغداد والتنظيمات المسلحة المتحالفة معها.
إزاء هذه الإخفاقات المتتالية، قرّرت الولايات المتحدة، بالتفاهم مع حلفائها الإقليميين، تعديل مخططها مرة أخرى بإنشاء «تحالف دولي لمواجهة الإرهاب» من أجل الحدّ من توسّع «داعش» بعد إعلان دولته في الموصل من جهة، ومن جهة أخرى لاستغلال صراعات التنظيمات «الجهادية» في ما بينها على نحوٍ يؤدّي إلى تفكيك سورية والعراق إلى كيانات على أسس مذهبية وإثنية تنتظمها حكومةٌ كونفدرالية ضعيفة في كلٍّ من دمشق وبغداد.
أقلق هذا المخطط الهجومي إيران وروسيا، ذلك أنّ كلاً منهما ينطوي على تعدّدية إثنية ودينية ومذهبية ما جعلهما يتخوّفان من انتقال عدوى التفكيك الإثني والمذهبي إليهما. فوق ذلك، تخوّفت روسيا من تداعيات انتقال آلاف الشيشان والداغستانيين وغيرهم من مواطنيها المسلمين عبر تركيا للقتال في صفوف التنظيمات «الجهادية» في سورية والعراق، واحتمال عودتهم لاحقاً لتفجير اضطرابات أمنية في البلد الأمّ. هذا مع العلم أنّ احتمال سيطرة التنظيمات «الجهادية» على سورية يعني خسارة روسيا قاعدتها البحرية في طرطوس، وهي الأخيرة الباقية لها في حوض البحر المتوسط.
في ضوء هذه الواقعات والتطورات يمكن الاستنتاج أنّ حضور روسيا وقبلها إيران في سورية هو لدعم الدولة والحؤول دون سقوطها في أيدي الإسلامويين «الجهاديين» ولتفادي اتخاذها منصةً لشنّ هجمات ضارية على روسيا وإيران معاً.
ما انعكاسات الحضور الروسي المكثّف في سورية على سائر مناطق سوراقيا، ولا سيما العراق وفلسطين ولبنان؟
الواقع أنّ قوى المقاومة العربية، القومية واليسارية والديمقراطية، فسّرت قيام التحالف الضمني بين الولايات المتحدة وحلفائها الإقليميين من جهة والتنظيمات الإسلاموية «الجهادية» من جهة أخرى بأنه يستهدفها بالدرجة الأولى. لذا سارع فصيلها الرئيس في لبنان حزب الله إلى نجدة الجيش السوري في معركة القُصيْر محافظة حمص ومن ثم في معارك القلمون والزبداني في ريف دمشق الغربي، كما في سهل الغاب محافظة حماه وريف حلب الجنوبي. وفي العراق، حرّكت فصائل منضوية في «الحشد الشعبي» بعضاً من وحداتها المقاتلة لدعم الجيش السوري في مناطق اشتباكه مع «الجهاديين» في البلاد.
لعلّ الظاهرة الأبرز، في هذا السياق، اندلاع «الانتفاضة الثالثة» في فلسطين المحتلة بأجزائها الثلاثة: الضفة الغربية ولا سيما القدس ، وقطاع غزة، والمناطق المحتلة العام 1948. صحيح أنّ ثمة أسباباً وظروفاً ودوافع خاصة بالساحة الفلسطينية حملت الشعب الفلسطيني بشيبه وشبانه وشاباته على تفجير انتفاضة عاصفة في وجه «إسرائيل»، حكومةً وجيشاً وشرطة ومستوطنين، غير أنّ الهتافات والشعارات والصور المرفوعة خلال فعاليات الانتفاضة عكست أيضاً بشكلٍ لافت الترابط بين الأعداء المشترَكين لقوى المقاومة في فلسطين وسورية وأتاحت لها تبادل شعارات التضامن في ما بينها ضدّ أميركا و«إسرائيل».
من مجمل هذه التطورات يمكن الاستنتاج أنّ حضور روسيا المكثّف في سورية واحتمال تمدّده إلى العراق يمكن أن ينتج، على مستوى سوراقيا، المفاعيل الآتية:
أولاً، تعزيز الجيش السوري لوجستياً ودعمه عملانياً على نحوٍ يمكّنه من توسيع نطاق عملياته وبالتالي سيطرته على مناطق يتحكّم بها «الجهاديون» في وسط سورية وغربها وشمالها وجنوبها الأمر الذي يعزز المركز التفاوضي لحكومة الرئيس بشار الأسد في حال توصل أميركا وروسيا مستقبلاً إلى توافق على إنهاء الصراع سياسياً في الإقليم، وليس في سورية فقط، بمؤتمر جنيف -3.
ثانياً، اقتناع واشنطن بأنّ حضور روسيا المكثّف في سورية من شأنه ليس دعم حكم الأسد وإضعاف أعدائه المحليين فحسب، بل تعزيز نفوذ إيران أيضاً في كلّ من سورية والعراق ولبنان، وبالتالي إضعاف نفوذ أميركا وحلفائها في الإقليم وتهديد مصالحها، كما أمن «إسرائيل». ذلك كله يدفع الولايات المتحدة وحلفاءها الإقليميين الى تزويد التنظيمات الاسلاموية المقاتلة وفصائل «المعارضة المعتدلة» أسلحةً نوعية، ولا سيما الصواريخ المضادّة للدروع وللطائرات المروحية، بغية الحدّ من قدرات الجيش السوري وتفادي إعادة سيطرته على كامل مناطق ما زالت في قبضة أعدائه. ذلك يؤدّي، في ظنّ أميركا وحلفائها، إلى تعزيز مركز تنظيمات المعارضة السورية في أيّ مفاوضات قد تجري لاحقاً لإنتاج تسوية سياسية للصراع.
ثالثاً، يتأتّى عن الحضور الروسي المكثف في سورية ولاحقاً في العراق وردود فعل الولايات المتحدة وحلفائها عليه نشوء مرحلة انتقالية عسكرية بامتياز تشمل بانعكاساتها لبنان وفلسطين واليمن، وتتركز خلالها جهود الأميركيين وحلفائهم على الحؤول دون انتعاش قوى المقاومة العربية واستقوائها وترجمة ذلك بوقائع سياسية مؤاتية لها داخل أقطارها.
باختصار، سيبقى الصراع محتدماً عسكرياً في سورية والعراق، وشعبياً في فلسطين، وسياسياً في لبنان. لا مواقيت محدّدة لمفاوضات ولا لحلول سياسية قبل حصول أحد حدثين: انتصار كاسح للجيش السوري على أعدائه في ميادين القتال، أو انتخاب رئيس أميركي يخلف أوباما ويسلّم باستحالة احتفاظ بلاده بنفوذ طاغٍ ودورٍ مهيمن في جميع أرجاء سوراقيا…
(البناء)