حلقة جديدة في الصعود الإيراني
غالب قنديل
يوم امس كان مفصلا مهما في مسار تطبيق الاتفاق الموقع بين إيران ومجموعة الخمسة زائد واحد فقد انطلقت آليات رفع العقوبات الأميركية والأوروبية عن الجمهورية الإسلامية الإيرانية .
أولا خلافا لمزاعم الرئيس باراك أوباما ليس التزام إيران بعدم امتلاك السلاح النووي وبالطابع السلمي لبرنامجها النووي ثمرة للاتفاق بل إن الاتفاق كرس الاعتراف الدولي بهذه الحقيقة الناتجة عن التزام ذاتي إيراني برفض التسلح النووي لاعتبارات عقائدية وسياسية عبر عنها الإمام آية الله السيد علي الخامنئي مرشد الجمهورية بصورة مبكرة ومن خلال فتوى دينية شرعية جرى طمسها والتنكر لها لسنوات طويلة بصورة متعمدة لتبرير سياسة الغرب العدوانية التي استهدفت مساعي إيران لامتلاك التكنولوجيا النووية في سياق ثورتها الصناعية والتقنية الكبرى .
في حصيلة رفع العقوبات تدريجيا وبعد الأشهر الثلاثة المنقضية على إقرار الاتفاق النووي في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة سوف تتحرر علاقات إيران التجارية والمالية من القيود كما ستحظى إيران تباعا بفرصة استرجاع اموالها المجمدة والمحجوزة نتيجة العقوبات.
ثانيا تسعى دول الغرب الصناعي من جانبها لاستثمار الظروف الجديدة في التقاط فرص الاستثمار والتبادل التجاري مع قوة اقتصادية شرقية عملاقة متنوعة الموارد ومتعددة المزايا ولكن إيران المنفتحة على هذا النوع من العلاقات بالغرب في المرحلة الجديدة هي دولة سيدة متمسكة بكرامتها الوطنية وبندية علاقاتها الخارجية بجميع دول العالم على قاعدة المصالح المشتركة وبحدية المنفعة المتوازية فهي تنطلق في انفتاحها على الغرب من نجاحها التاريخي في كسر الحصار والانتصار على العقوبات وغيرها من تدابير العزل أي انها تنفتح من موقع القوة والاقتدار وليس من موقع الإذعان والخنوع وهذا عنصر حاسم في النظر لمستقبل العلاقات الإيرانية الغربية وحيث تجيد إيران التمييز في حساب الفرص والمخاطر.
ان الشركات الغربية لن تكون طليقة في السوق الإيراني الرحب بل هي ستجد نفسها دائما ملزمة باحترام قواعد وضوابط تحقق المصالح الإيرانية مقابل ما يبحث عنه الغربيون من مصالح تجارية ومالية لشركاتهم ودولهم وإيران التي انتصرت على الحصار تتعامل مع الدول الأجنبية بعزة وبندية لامكان فيها لعقد النقص التي تظهرها دول التبعية للغرب التي تقدم أسواقا سائبة وموارد ثروة مباحة للشركات الغربية كما هي الحال في معظم الدول العربية مثلا.
ثالثا يراهن المخططون الأميركيون على تضمين عمليات التبادل والاستثمار انشطة تهدف إلى اختراق البنيان الاجتماعي والسياسي الإيراني واحتواء الثقافة التحررية الإيرانية المعادية للهيمنة من خلال قيم الاستهلاك وانمطة العيش التي يعممها الغرب بدعايته المكثفة ويجاهر بعض الخبراء الأميركيين بالسعي لتغذية نزوع سياسي وشعبي إلى مهادنة الغرب والتخلي عن المواقف الإيرانية التحررية المتبنية لقضية فلسطين والداعمة لحركات المقاومة وللدول المناهضة للهيمنة الاستعمارية في المنطقة والعالم وهذا ما بات موضع عناية إيرانية وتخطيط مستقبلي دشنه الإمام الخامنئي بتشريح استراتيجيات القوة الناعمة ورسم ملامح التصدي لها وهو ما سوف تطوره إيران في جميع المجالات الثقافية والإعلامية بالتوازي مع سيرها في تطبيق الاتفاق وحصاد ثماره فالقيادة الإيرانية تظهر انتباها ويقظة كبيرين لمضمون خطط القوة الناعمة الأميركية والغربية وهي تضع خططا مستقبلية لتطوير البناء الاقتصادي الذي يشكل قاعدة النزعة الاستقلالية فالقدرات المالية الجديدة ستكون في خدمة خطط البناء الذاتي الاقتصادي والدفاعي المستقل برامج تنويع موارد الثروة الإيرانية وهي الاستراتيجية العليا التي مكنت إيران من قهر الحصار وإفشال اهداف العقوبات التي استهدفت الطموحات الإيرانية الاستقلالية منذ انتصار الثورة .
رابعا مشكلة الحسابات الأميركية ما بعد الاتفاق النووي هي في التخطيط الافتراضي لوضع السعودية مقابل إيران كقوتين متناحرتين على النفوذ الإقليمي وللحفاظ على التقسيم المذهبي للعرب والمسلمين وحيث تراهن الولايات المتحدة على هذا البعد في الصورة التي تعممها عن مستقبل المنطقة بينما تسعى إيران إلى مروحة من العلاقات التي تمنع مثل هذا التخندق الاختزالي من خلال صلاتها المتقدمة والواعدة مع دول كبرى فاعلة في المحيطين العربي والإسلامي كباكستان ومصر ومع حرصها المستمر على احتواء الخلافات مع كل من تركيا والسعودية وحيث سيكون خلال المرحلة المقبلة لتطور الأوضاع في سورية واليمن أثر كبير ومهم على الخيارات والمواقف حيث ترمي إيران بثقلها مع روسيا لدعم الجهود السورية والعراقية في مقاتلة الإرهاب التكفيري الذي ساندته السعودية رغم مخاطر ارتداده عليها بينما تتمسك بموقفها المبدئي الداعم لحل سياسي يمني ينهي التدخلات ومحاولات فرض الوصاية السعودية وتنظر إيران إلى المنطقة من زاوية ان خصمها الاستراتيجي هو الكيان الصهيوني الذي يمثل قاعدة الهيمنة الاستعمارية في الشرق ومن هنا التمسك الإيراني بقضية فلسطين التي ستبقى التناقض الحي والمستمر بين طهران وواشنطن والعواصم الغربية الأخرى وهذه القضية هي في جذر الصراع السعودي الإيراني الذي تعتبره طهران قابلا للاحتواء السياسي مقابل الصراع ضد الكيان الصهيوني الذي هو التناقض الرئيسي.
خامساأما السعي لعزل إيران عن تحالفاتها والتأثير على علاقتها بشركائها الكبار الذي هم رفاق المراحل الصعبة لأربعة عقود متتالية فيبدو رهانا عقيما بينما القيادة الإيرانية توسع من نطاق تحالفاتها العالمية التي عززت قدراتها على الصمود في وجه الحصار والعقوبات لأنها تعتبر تخليص العالم من الهيمنة الأحادية الأميركية اولوية لا بد منها لإصلاح الواقع الدولي ولتطوير علاقات تعاون عالمية متكافئة ومتوازنة ولتحرير الأمم المتحدة وتطويرها نحو صيغة اكثر عدالة وتوازنا وهذا هو الأساس العلمي والواقعي للشراكة بين إيران وروسيا والصين وغيرهما من القوى الصاعدة في العالم.
لهذه الغاية يتطور التعاون الإيراني مع روسيا والصين ومجموعة شانغهاي ودول البريكس كما يتعزز الموقف الإيراني الداعم لسورية والعراق وسوف تقود مرحلة ما بعد العقوبات إلى فتح قنوات اتصال وتأثير إيرانية متعددة في الخليج وشمال أفريقيا ولن تستطيع المساعي الأميركية كبح منطق المصالح الطبيعي في استمالة طهران للمزيد من العواصم نحو الخروج من مرحلة القطيعة بعد التحول الغربي الصريح والسريع.