الغموض اللبناني واللاسياسة: العالم كله بانتظار تركيا
ناصر قنديل
– يسهل على المتابع للواقع السياسي اللبناني تذكُّر المحطات التي كادت فيها المنصات الجامعة للقوى اللبنانية أن تنهار وفجأة تدخّلت قوى خفية لإبقائها على قيد الحياة، كما يسهل تذكُّر محطات معاكسة كادت فيها تسويات أن تولد وتدخلت قوى خفية ومنعت حدوثها، ويكفي التذكير أنّ الحكومة من طرفيها المعنيّين بالتصادم تيار المستقبل والتيار الوطني الحرّ، تعرّضت لتهديد إسقاطها والتمهيد بالسير خطوة نحوه وفجأة تراجع رئيس الحكومة عن التلويح بالاستقالة، كما تراجع وزراء التيار الوطني الحر عن مثلها. وفي المقابل قبل شهور كان كلّ شيء يقول بقرب وصول الحوار بين التيارين الأزرق والبرتقالي إلى تفاهم محوره الملف الرئاسي ومتفرّعاته الحكومية والبرلمانية وقانون الانتخاب، وفجأة تجمّد كلّ شيء حتى تبخّر التفاهم الموعود. وقبل أيام كانت التسوية المتواضعة التي تطال تأجيل تسريح العميد شامل روكز لضخّ شحنة إيجابية في الحياة السياسية والمؤسسية قيد الولادة قبل أن تتدخل أيدٍ فاعلة وتحول دون ذلك، وكلّ هذا لا يعني إلا شيئاً واحداً، إفهام اللبنانيين، أنّ انفجار بلدهم ممنوع كما الإقلاع بخيار التسويات فيه ممنوع أيضاً لبنان الغامض ولبنان اللاسياسة هو المطلوب.
– الاستفزاز وتسجيل النقاط والتقدّم حتى ملامسة الخطوط الحمراء، خيارات متاحة للقوى اللبنانية والإقليمية، لكن يبدو واضحاً أنّ تسييل النقاط المحققة في تسويات أبعد مدى لم يحن أوانه، وأنّ التصعيد منها لدخول مواجهة تفتح البلد على المجهول لم يحن أوانها أيضاً، ولبنان يختزن مجموعة من الصفات تسمح لمن يدقق فيها أن يضع يده على العناصر التي تصنع العنوان المرجعي في الحساب اللبناني، ففي لبنان يتقابل بصورة رئيسية طرفان يملكان مصادر القوة على التحرك المقاومة وعلى رأسها حزب الله في ضفة، وفي ضفة مقابلة تيار المستقبل الذي يملك مع حلفائه وتأثيره على النائب وليد جنبلاط بالضغط السعودي فرصة تشكيل أغلبية نيابية، وقدرة تعطيل لتشكل نصاباً انتخابياً لإنجاز استحقاق رئاسة الجمهورية، إذا قرّر جنبلاط الوقوف على الضفة التي يقف فيها حزب الله وحلفاؤه. وفي المقابل يمثل تيار المستقبل الحليف الوحيد للسعودية الذي لا يصنعه الحضور السعودي المباشر، بعدما بدا واضحاً، أنّ نفوذ السعودية في اليمن صفر ما قبل التدخل السعودي، بدليل طرد كلّ جماعة السعودية خارج اليمن بزمن قياسي لا يزيد عن شهر قبل عودتهم على البوارج السعودية وفي العراق تشكلت حكومة جامعة بلا منّة ولا جميل من السعودية وفشلت كلّ محاولات التعطيل للقول إنه بلا السعودية لا يمكن تشكيل حكومة. وهو ما أثبتت السعودية قدرتها مراراً على قوله في لبنان، ولما عاندها خصومها وتشكلت حكومة الرئيس نجيب ميقاتي ندم الذين فعلوا على ما فعلوا، وفي سورية لا تملك السعودية إلا ما تستعيره من نفوذ الآخرين، حيث تنظيم «القاعدة» هو الذي يقاتل ويستعير كلّاً من السعودية وحلفائها الإقليميين كتركيا و«إسرائيل» فرعاً من فروع «القاعدة»، وحيث التشكيلات السياسية والعسكرية للمعارضة التي تتقاسم النفوذ عليها السعودية وحلفاؤها، بات محسوماً أنها مجرد واجهات تلفزيونية لا تملك لا طاقة تصويتية إذا تمّ اللجوء إلى صناديق الاقتراع، ولا قدرة قتالية إذا احتسبت البنادق ومساحات مناطق السيطرة. فمن لبنان ومن لبنان فقط صارت السعودية تستطيع توجيه الرسائل.
– إذا أرادت السعودية وفقاً لحساباتها ومنطقها توجيه رسائل لإيران التي تعتبرها العدو رقم واحد، فلبنان هو الساحة. وإذا أرادت مقاتلة حزب الله الذي تعتبره سبب خسائرها في كلّ الساحات، كما يقول كلّ الذين تدفع لهم ثمن مقالاتهم، فلبنان هو الساحة. وإذا أرادت ترجمة تحالفها مع «إسرائيل» عملياً، فلبنان يجمع حلفاء جدداً لها بتاريخ تحالفهم «العريق» بـ«إسرائيل»، و«إسرائيل» تضع لبنان تحت المجهر، وفيه تتواجد القوة التي تشكل وفقاً لما يقول خبراؤها وقادتها مصدر الخطر الاستراتيجي عليها. وإذا أرادت السعودية رفع سعرها لدى صاحب القرار الأميركي فالمكان الوحيد الذي تملك قدرة تسهيل وتعطيل للحلول هو لبنان، وعندما تريد أن تقدّم إسهاماً حقيقياً في تصعيد في سورية، فليس لديها سوى ما يمكن أن يقدّمه حلفاؤها المتنوّعون في لبنان، وإذا قرّرت السير حتى النهاية في التحالف مع «القاعدة» لقلب الطاولة في وجه الدور الروسي على طريقة أفغانستان قبل خمسة وثلاثين عاماً، فليس هناك باكستان يمكن لها لعب الدور رغم التشارك مع تركيا، التي إنْ بقي حزب العدالة والتنمية حاكماً فيها، فهو لن يتخطى المشاركة بالحرب الناعمة، ليكون شمال لبنان بديلاً عن وزيرستان في باكستان التي شكلت خلفية تنظيم «القاعدة» لخوض الحرب في أفغانستان.
– السؤال هو ماذا تنتظر السعودية حتى تقرّر بأيّ ضفة تصرف نفوذها في لبنان، التسوية أم المواجهة، وما هو العنصر الذي تريد أن تتوثّق من حسن تبلوره حتى تقرّر؟
– التموضع الروسي والتعامل الغربي معه، يؤشران إلى حقيقتين، الأولى أن تدحرج انتصارات التنسيق الروسي السوري العراقي والإيراني لا يترك الكثير من الوقت، وكذلك المأزق اليمني والضغوط الدولية لإنتاج تسوية لا يتركان هامشاً واسعاً من الوقت. فالحقيقة الأولى أنّ الوقت داهم، والحقيقة الثانية، أن لا قرار أميركياً ولا غربياً بالتصادم مع روسيا، بل بالتجاور والسعي لتحسين شروط التفاوض، وقد مرّت فرص واختبارات كان أهمّها تثبيت قرار سحب صواريخ باتريوت من تركيا نهاية هذا الشهر وبدء التنفيذ، وما يعنيه أن لا نية للعرقلة العسكرية للتموضع الروسي ولا نية لأيّ احتكاكات عسكرية مع القوات الروسية رغم الصراخ التركي عن التهديد والخطر.
– لا شيء يمكنه تفسير التريث السعودي، الذي ينتج تجميد لبنان الغامض، منعاً للسقوط ومنعاً للإقلاع في التسويات، إلا ما يفسّر الإسراع الروسي في التموضع العسكري، وما يفسّر التسابق الروسي الأميركي على العلاقة بالأكراد، والمقصود طبعاً قرب رحيل حزب العدالة والتنمية خلال أسبوعين تجري بعدهما الانتخابات البرلمانية التي يُجمع المراقبون بعد فشل مشروع الرئيس التركي بإقامة المنطقة العازلة وفشله في ضرب الأكراد، أنها ستحمل هزيمة الحزب وفشله في نيل أغلبية تسمح له بإعادة تشكيل الحكومة التركية ورسم سياساتها الخارجية، وفيما العالم كله يتصرف على قاعدة ماذا ستكون الحال مع تركيا بحكومة توافقية، حيث لا أغلبية لحزب الرئيس التركي تتيح له دوراً حاسماً في رسم سياساتها، قرّر السعوديون المقامرة بالسير عكس الاتجاه ومنح الرئيس التركي وحزبه بمعونة «إسرائيل» الاستخبارية فرصة فوز جديد، المال سعودي والتخطيط «إسرائيلي»، لمنح المثلث التركي ــــ السعودي ــــ «الإسرائيلي» فرصة إدارة حرب استنزاف طويلة في المنطقة، بعدما حسم التموضع الروسي موقف مصر المؤيد لهذا التموضع وفقاً لرؤية مصرية تعتبر الخطر على أمنها من مصدر رئيسي تمثله تركيا، وبعدما حسمت السعودية أنّ الحليف الذي لا بدّ من التفاهم معه هو تركيا بالتحديد، ولو كان الثمن خسارة مصر، تمّت الصفقة.
– بانتظار الانتخابات التركية، العالم ينتظر، والمنطقة تنتظر، تحوّلات موضعية ستفرض إيقاعها، لكنها في الحالين لن تغيّر في الموازين الكبرى، لأنّ تركيا في سقف أحلام رئيسها ستعود إلى ما كانت وقد كانت في ذروة قوتها وما غيّرت، لكن لبنان في رأس قائمة المنتظرين، بين الانفراج والانفجار.
(البناء)